وإذا عدنا إلي الوراء قليلا عدة سنوات فإننا سنتذكّر الرفض الذي أعلنه البرلمانيون الأتراك عبر الاقتراع، أثناء جلسة للجمعية الوطنية الكبري في الأول من شهر مارس 2003، لطلب واشنطن نشر حوالي 62000 من المارينز علي الأرض التركية بغية الهجوم علي العراق من الشمال. ذلك القرار الذي أدهش آنذاك الكثير من المراقبين لم يكن مع ذلك، مفاجئا مثل صاعقة في سماء صافية. كانت تركيا، في الواقع، قد قبلت سابقا أن تكون أحد عناصر التوليفة السياسية الإقليمية الجديدة التي رسمت إدارة الرئيس بيل كلينتون معالمها. كان الرئيس الأمريكي يريد أن يستفيد من أجواء التفاؤل التي سادت بعد اتفاقيات أوسلو التي جري التوقيع عليها فوق عشب حديقة البيت الأبيض في شهر سبتمبر من عام 1993 كي يعدّل من الاتفاقات والتحالفات في المنطقة. كانت الخطوة الأولي في تنفيذ الهيكلية الإقليمية الجديدة قد تجسّدت في اتفاقيات التعاون العسكري وتبادل التكنولوجيات العسكرية المتقدّمة التي وقّعتها تركيا وإسرائيل في شهري فبراير وأغسطس من عام 1996. كان هدف بيل كلينتون هو التوصّل إلي دمج عمّان ورام الله سريعا في ذلك المحور أنقرة تل أبيب. من المعروف أن ذلك الهدف لم يتحقق أبدا بسبب فوز الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2000 . إن النفوذ الكبير للمحافظين الجدد في إدارة بوش خلط الأوراق الجيوستراتيجية من جديد في المنطقة. واستفاد المحافظون الجدد، الذين كانوا يتمتعون بنفوذ فريد في إدارة بوش الأولي، من تفجيرات 11 سبتمبر للإطاحة بنظام صدّام حسين. الأمر الذي كان يمثّل بنظرهم المرحلة الأولي في عملية إعادة صياغة عامّة للشرق الأوسط. وكان هؤلاء الايديولوجيون يعتبرون أن مفهوم الفوضي الخلاّقة العزيز علي قلوبهم سيسمح بفرض الديمقراطية من الخارج. ولأسباب عديدة غدت هذه الأهداف متناقضة مع المصالح الوطنية التركية. أدرك القادة الأتراك تماما أن وجودهم استراتيجيا علي الخط الأول ربما سوف يضعهم في موقع لا يمكن لأحد السيطرة عليه، ومما سيمنعهم من الاندماج في المنطقة وزيادة دورهم فيها في حال تحيزهم للسياسة أحادية القطبية التي تنتهجها إدارة بوش بكلمة واحدة كانوا يعتبرون أن واشنطن التي تزرع الريح قد لا تحصد هي العاصفة مباشرة. في المحصّلة اتخذت تركيا موقفا شجاعا أثار الكثير من الزوابع في علاقاتها مع الولاياتالمتحدة. تأكّد ذلك القرار الذي نضج بهدوء عبر اتخاذ سلسلة من المبادرات التي تدل علي إرادة تركيا في أن تلعب دورا سياسيا ودبلوماسيا متزايدا في محيطها الإقليمي. وكان أولا تطبيع العلاقات مع سوريا مشهودا، فالدولتان كانتا علي أهبة الصدام العسكري في خريف عام 1998 ووقعتا في عام 2002 اتفاق تعاون عسكري بينهما وتتكرر منذئذ اللقاءات والتصريحات المشتركة والمبادلات والاتفاقيات أمام غيظ أميركا التي تصر دائما علي اعتبار دمشق جزءا من محور الشر. ومن المعروف أن الجهود الدبلوماسية لأنقرة كان لها وزن كبير في حضور سوريا مؤتمر انابوليس في نهاية شهر نوفمبر من عام 2007 . أمّا مع إيران، فلا شك أن العلاقات أكثر تعقيدا خاصة لكون طهران منافسا حقيقيا اقتصاديا وسياسيا لأنقرة في منطقتي القوقاز وآسيا الوسطي بالنسبة للصراع الفلسطيني لم يتردد المسئولون الأتراك في أن يستقبلوا قادة حماس رسميا مع أنهم منبوذون من قبل جزء من المجموعة الدولية؛ هذا إلي جانب الطلب منهم، اليوم، التخلّي عن كل استراتيجية قائمة بشكل أساسي علي العنف. قد يمكن تقديم الكثير من الأمثلة للانتباه المتعاظم الذي توليه تركيا للمسرح السياسي الشرق أوسطي. لكن ينبغي أن لا يساء الفهم، فهذا القرار لا يشكل قطيعة مع الماضي ولكنه يندرج في مسار السياسة الخارجية التركية التي انتهجت منذ سنوات الستينيات التحرّك في عدة اتجاهات كي لا تبقي أسيرة تحالف يحصرها كثيرا مع الولاياتالمتحدة. هذا لا يعني أبدا الطلاق مع الدولة العبرية ولا بالقطع الانسحاب من الحلف الأطلسي، ولكن قبل كل شيء ضرورة الدفاع عن المواقف المتوافقة مع مصالحها الوطنية في إطار محيط غير مستقر وشديد التعقيد. هذا لا يعني أيضاً أن تركيا سوف تترك نفسها عرضة للانزلاق في دوّامة الزوابع الشرق أوسطية، وإنما هي مصممة علي أن ترفع من قيمة أهميتها الجيوبوليتيكية الإقليمية الأكيدة في علاقتها المتميزة مع القوي الغربية وخاصة مع الاتحاد الأوروبي. إن تركيا التي تقيم اليوم حوارا وعلاقات مع جميع دول المنطقة لديها بلا ريب طموحات قد تسمح لها تجربتها التاريخية ووزنها الاقتصادي وموقعها الجغرافي بالوصول إليها ذات يوم. ومن مصلحة جميع شركائها التأمل بذلك واستخلاص جميع النتائج منه.