بقدر أهمية ما قاله الرئيس بوش للزعماء الذين التقاهم في الشرق الأوسط، فإن الأكثر أهمية هو ما سمعه بوش من هؤلاء الزعماء والقادة، علاوة علي الرسائل الشعبية التي تكفلت الصحف ومحطات التليفزيون في نقلها علنا، تعقيبا علي زيارة الرئيس الأمريكي. في كل محطة من المحطات التي توقف فيها الرئيس بوش ردد نفس الجمل التي تعبر عن السياسات الأمريكية المعروفة، فلم تكن هناك أي مفاجأة أو تراجع. ففي إسرائيل تحدث بوش عن استمرار الدعم الأمريكي المطلق لأمن أكبر دولة قريبة إلي قلب الولاياتالمتحدة، وبحثا عن مزيد من الحب والشعبية التي لا يجدها في بلاده أكد علي طبيعة الدولة اليهودية، فيما حتي الكثير من زعماء الأحزاب الليبرالية واليسارية في إسرائيل يتحاشون استخدام تعبير الدولة اليهودية في ظل وجود أكثر من مليون مسلم من العرب الفلسطينيين، وفي محاولة لإبعاد أي صورة عن عنصرية الدولة. وأكد بوش التزام الولاياتالمتحدة بالدفاع عن إسرائيل ضد أي خطر نووي من جانب إيران أو أي من أعدائها المحتملين، ولكن الرسالة كانت واضحة بالتصدي لإيران وتبني بوش موقف الحكومة الإسرائيلية بالضبط تجاه قضية المستوطنات، واعتبر أن هناك مستوطنات شرعية وأخري عشوائية غير شرعية، وهو انضم إلي أولمرت بالمطالبة بإزالة المستوطنات العشوائية وهي مجموعة "أكشاك وبيوت متنقلة"، وبالطبع فقد أضفي شرعية علي الاستيطان. بوش يبحث عن شعبيته الضائعة في إسرائيل ولكن ماذا سمع بوش في إسرائيل؟ رئيس الحكومة أولمرت وجد في زيارة بوش فرصة لرفع شعبيته المنهارة وقبيل إعلان تقرير "فيتو جرادوف" عن التقصير في حرب لبنان، وهو التقرير الذي ينتظر أن يوجه الكثير من الانتقادات إلي "أولمرت" وأركان حكومته خاصة وزير الدفاع السابق "عمير بيرتس" الذي استقال ثم خسر رئاسة حزب العمل أمام وزير الدفاع الحالي "إيهود باراك".. وبالتالي فإن ما سمعه بوش من خلال الصحف الإسرائيلية جاء مخيبا لآماله، من عينة أن بوش جاء إلي المكان الوحيد في العالم الذي تتبقي له شعبية كبيرة، بعد أن أصبح مجرم حرب في نظر معظم شعوب العالم، وضاعت شعبيته في أمريكا نفسها باعتبار أن عصره شهد أسوأ كوارث تشهدها أمريكا منذ كارثة حرب فيتنام، فتمت مهاجمة أمريكا نفسها وتدمير أهم رموزها، برجي التجارة ومقر وزارة الدفاع "البنتاجون"، علاوة علي حروب فاشلة في أفغانستان والعراق، واعتبر عديد من المعلقين أن القادة الثلاثة "بوش وأولمرت وعباس" هم مجرد "ثلاث بطات كسيحات" فيما انتقد آخرون تصريحات بوش الخاصة بالدولة الفلسطينية، وقال أحد الكتاب اليمينين "هل يقبل بوش تقسيم نيويورك حتي يتحدث عن تقسيم القدس؟". في رام الله هدنة مؤقتة محطة بوش الثانية في "رام الله" للالتقاء بالرئيس محمود عباس شهدت تراجع بوش حتي عن الخطاب السياسي الذي تعود إلقاءه، فبعد أن كان يتحدث عن ميلاد الدولة الفلسطينية في 2008 عاد وأشار إلي أن طابع هذه الدولة يجب أن يتحدد في 2008، ومرة أخري مشيرا إلي أن هذا العام قد يشهد اتفاقية السلام الإسرائيلية الفلسطينية. وعرض بوش تأسيس صندوق لحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وهو ما يضرب حق العودة في مقتل، ويجعل من هذه القضية مسألة تعويضات. وفيما لم يجد بوش جديدا يقدمه للفلسطينيين، فقد اتيح له مباشرة رؤية الاحتلال خاصة أن الظروف الجوية السيئة أجبرته علي السفر بالسيارة من القدس إلي رام الله في موكب حربي، ورأي الجدار العازل وبالطبع مر بعشرات نقاط التفتيش التي لم توقف الموكب بالطبع، ولكنه تعرف علي واقع الاحتلال واضطر إلي استخدام كلمة الاحتلال لأول مرة، وهو الجديد لدي بوش. في الأراضي الفلسطينية استمع بوش إلي خطابين مختلفين، خطاب السلطة الفلسطينية وخطاب حركة حماس وشريكاتها الجهاد الإسلامي والجبهات الشعبية وغيرها، والرسالة الأهم التي حرص الفلسطينيون علي إيصالها هي أن الوقت ينفد بسرعة والتوازن الهش الآن قد ينهار في أي وقت، فعباس لا يستطيع أن يتفاوض لفترة غير معروفة، في الوقت الذي تضرب فيه إسرائيل قطاع غزة وحتي داخل نابلس ورام الله، مع استمرار الحصار والاستيطان الذي جعل الضفة الغربية مثل قطعة "الجبن الدنماركي" "المخرمة". رسالة الواقعية السياسية في رام الله ليست بلا سقف سياسي ولا سقف زمني، وتأكد بوش أن الوقت عنصر حيوي، فعباس لا يحارب في جبهة المفاوضات مع إسرائيل فقط وإنما يواجه بخصم سياسي شرس في غزة لديه إمكانيات تدمير أي طبخة سياسية، إذا لم تتوافر إمكانات حل عادل يقبله الشعب الفلسطيني. ما الذي سيحدث؟ وبعد أن يعود بوش إلي واشنطن لابد أنه وفريق إدارته خاصة وزيرة الخارجية كوندليزا رايس سيعكفون علي دراسة ما سمعوه في الشرق الأوسط وبالتالي فإن الوقت ضيق هو الآخر أمام إدارة بوش في عامها الأخير، وعليها ترتيب ملفات كثيرة في ضوء استخلاصات ورسائل واضحة. فإسرائيل تري في إيران العدو الرئيسي والمعرقل لأي عملية تسوية عبر التحالف مع سوريا وحزب الله في لبنان، وبالتالي لابد من التصعيد ضدها سواء بعملية عسكرية أو بحصار خانق. وإسرائيل تري أيضا في سوريا جزءا من المشكلة في الشرق الأوسط وليس جزءا من الحل، وهي تحتفظ لنفسها بشن عمليات جديدة ضدها علي غرار العملية الغامضة التي قامت بها العام الماضي، وذلك لإضعافها عسكريا، أما الفلسطينيون فقد أكدوا علي عنصر الوقت وعلي أنهم تجاوزوا الخطوط الحمراء وإذا لم يحدث تقدم بسرعة في عملية السلام مع إسرائيل، فإن مخاطر كثيرة ستنشب في المنطقة، وستعاني إسرائيل والمصالح الأمريكية جراء أي فشل جديد. وفي الخليج كانت الرسالة واضحة لبوش، بضرورة عدم شن حرب جديدة علي إيران، خاصة أن دول مجلس تعاون الخليج استضافت الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في قمتهم السابقة بحثا عن جسور للتواصل، ولا ينتظرون من بوش أن يدمر هذه الجسور. ودول الخليج طلبت مباشرة من بوش العمل علي إغلاق ملف العراق قبل أن يغادر والمهمة العاجلة الآن هي إعطاء دفعة لإعادة الإعمار والمساعدة في التوافق والمصالحة السياسية بين القوي العراقية حتي لا يتفتت العراق. وفي مصر كان الحديث الشعبي والرسمي الأعلي صوتا رفضا تاما لربط المعونات الأمريكية بأي شروط، ورفضا للتدخل في الشئون الداخلية المصرية، وهو موقف حتي المعارضة التي تعاني من سياسات حكومية غير ديمقراطية، وتلك الرسائل التي سمعها بوش تجعل تقييم الزيارة يختلف فليس المهم فقط ما قاله بوش وإنما ما سمعه مباشرة رسميا وشعبيا، حتي أن كثيرا من العواصم العربية التي استقبلته شهدت احتجاجات ضده وضد السياسة الأمريكية بشكل مختلف، وحتي في إسرائيل وجد من يسخر منه، ولسوء حظ بوش أن الوقت أمامه يضيق وقد لا يستطيع أن يعدل سياساته التي تحولت إلي كوارث في الشرق الأوسط علي وجه الخصوص، والمؤكد أن نتائج تلك الزيارة سوف تكون موجودة أكثر أمام الرئيس القادم.