بداية، لابد من التأكيد علي أن فلسفة التغيير السياسي تنطلق من مقتضيات الضرورة السياسية، لا التغيير من اجل التعبير، وعلي ضوء ذلك، فإن تعديل 34 مادة من الدستور المعمول به حالياً هو تأكيد علي أن الاستقرار، لايعني الجمود وان فلسفة التعديلات تعتمد علي إتاحة الفرصة للمشرع لاختيار الآليات الملائمة للظرف السياسي والتحديات التي تواجه المجتمع. وبعيداً عن خطابات الرعونة والرفض فان تعديل هذه المواد بعينها سوف يحدث تحولاً جذرياً في النظام السياسي بالاتجاه الي مزيد من الديمقراطية بما يضمن التوازن بين السلطات وحرية تأسيس الاحزاب ومنح صلاحيات اكثر لمجلسي الشعب والشوري وهو مايحدث لأول مرة منذ 23 يوليو 1952م من خلال منح رئيس الوزراء بعض الصلاحيات التي تمكنه وتسمح له بالتشاور مع رئيس الجمهورية.. لهذه التعديلات قد قطعت الطرق علي سماسرة الفاشية ومستثمري بورصة المزايدات لترسيخ قيم الاستبداد واحتكار الوطنية والدين.. ومثلت مفصلاً حيوياً من مفصل الدولة المدنية الحديثة.. دولة المواطنة والحداثة وتجاوز المطبات الايديولوجية الفاشية، فالدستور لايتجزأ والمبادئ الاساسية للحياة هي المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص. وان عدم السماح بقيام أحزاب دينية يعمل علي تعميق مبدأ حقوق المواطنة وغلق الباب أمام أي استغلال للدين في السياسة، وان مصر بهذه التعديلات تكون قد أرست مجموعة من القواعد المهمة لتحقيق الدولة المدنية الحديثة المرجوة، فهي تضفي مزيداً من الديمقراطية وترسيخاً لدولة القانون والديمقراطية وتنقل مصر من حكم الاقلية الي دولة المؤسسات الفاعلة وتؤكد علي ان مصر تقود ثورة ديمقراطية سلمية.. ويمكن القول ان هذه الثورة هي خطوة هامة وليست نهائية وقد لاتبدو أثارها واضحة للعيان في المدي القصير الا ان الحياة السياسية والممارسة الديمقراطية المنضبطة ذات الحماية القانونية ستشهد انعكاساتها لعقود قادمة، وقد تكون هذه االخطوة التي تمثل ثورة ديمقراطية غير كاملة ولاتلبي جميع الطموحات الا انه من المؤكد ان تدشين عصر التعديل والتفاعل السياسي والدستوري قد أرسي اجواء من تفعيل قيم الحوار بين من يعتقدون ان هذه الثورة هي النهاية وبين من يطمحون لمزيد من الثورة لتكتمل طموحات الامة في دستور كامل يلبي جميع الطموحات والاحتياجات السياسية والانسانية الا ان اهم الشروط لهذه الاجواء هو الحوار الفعال والبناء، وترسيخ قيم الحوار العاقل الذي يضبط ايقاع المتعصبين واصحاب الشعارات الجوفاء او الراديكاليين الذين مازالوا اسري التغيير الانقلابي وتقليل هيبة الدولة، وهو مايصب لصالح الجماعات الفاشية بأجندتها الإيديولوجية الهدامة. ولعل في هذا السياق نستشهد برأي احد رجال القضاء ذي المنصب الرفيع كنائب لرئيس محكمة النقض، عندما صرح لجريدة المصري اليوم في الرابع عشر من ديسمبر الماضي والذي قال فيه "إن مصر تحولت الي دولة بوليسية وهي دولة فرعون الذي طبق اجراءات بوليسية صارمة تقتل جميع الاطفال الابرياء تحسباً للخطر المحتمل".. كما ادلي بعبارة نارية وهي أن "مأساة الشعب المصري انه يكره حكامه بقدر ما ينافقهم اي يكرههم في السر بقدر ما ينافقهم في العلن". وبعد ذلك يختتم حواره بان التوريث قادم قادم سواء نجل الرئيس أو احد رجال الرئيس من المؤسسة الحاكمة، هكذا بمنتهي اليقين واحتكار الحقيقة يخرج هذا الكلام من رجل يتبوأ منصبا من ارفع واعلي المناصب القضائية، ناكراً حركة التفاعل والحراك السياسي الجاري حتي وان كان غير مكتمل، ويضر ويردد نفس الشعارات التي تخدم اول ماتخدم الحركات الفاشية التي تحاول جر الأمة الي غياهب الماضوية السوداوية والتمسح بالدين للوصول الي السلطة، ضاربين عرض الحائط بالدولة المدنية الحديثة التي تقوم اول ما تقوم علي فصل الدين عن الدولة حتي وان كان الدين الاسلامي هو الدين الرسمي للبلاد، إلا إنهم يصرون علي ضرب المدنية ودولة المؤسسات والتي لم تقو بانقضاض طوائف الفاشية عليها وانما بتقويتها في ظل مناخ سياسي متحرك وفعال وقادر علي نقد ذاته وتصحيح مساره ليتماشي مع مفاهيم الدولة المدنية الحديثة، وها هو كاتب وباحث كبير هو الدكتور نصر حامد ابو زيد والذي قال في مقال بجريدة المصري اليوم في الثاني من شهر يناير الجاري بان "الشعب قد ترك في العراء فاستطاع الاخوان المسلمون بمساعدة انقلاب عام 1971 ان يكونوا الغطاء هكذا بمنتهي اليسر في التحليل ولا أقول السطحية، يحاول نخبة من مروجي اجندة الاخوان أن يصدروا إيديولوجيتها الفاشية عبر هذا التحليل المبستر، فهاهم يرون الشعب عاريا، وان الذي مد يده لتوفير الغطاء هم هذه الجماعة المحظورة بحكم القانون والتي وصفها بأنها كانت نتيجة انقلاب 1971م الذي قاده الرئيس الراحل أنور السادات في محاولة منه لتصحيح مسار الدولة المدنية، فلم ير الاستاذ الدكتور في ثورة التصحيح تفعيلاً للمدنية ودولة المؤسسات وتطهير الأرض المصرية وتحريرها وعودة الحياة السياسية بتعددها والأحزاب السياسية لممارسة دورها، وإنما فقط رآها ساعدت الاخوان علي توفير الرداء للشعب المصري.. هل مثل هذه الكتابات والتصريحات تصب فعلا في إرساء دعائم الديمقراطية وتفعيل قيم الحريات السياسية وتخلق مناخا ملائما فعالا لترسيخ لآليات الدولة المدنية الحديثة والتي من اول شروطها إبعاد كل ما هو غير مدني والتأكيد علي مدنية كل المؤسسات وفض الاشتباك بين السياسي والديني، وذلك بإجهاض جميع المحاولات التي تسعي لإفساد هذه المدنية. وخلاصة، فإن الخطوات الهامة في طريق الإصلاح الشامل الذي تخطوه مصر وإعادة جدولة مؤسساتها المدنية وخلق مناخ أكثر ملاءمة لتفاعل جميع محاور التنمية، هو تحقيق الاستقرار بمعناه السياسي الجاد وليس هو الجمود أو التيبس وإنما هو خرق لهذا الجمود وخلق لروح الاكتشاف والمبادأة والإيمان بالمبادرة الايجابية، فالإصلاحات الدستورية والسياسية لاتتم من فراغ أو في فراغ، وإنما ترتبط ارتباطا وثيقا بالتحديات الاجتماعية والاحتياجات الإنسانية، فالضرورات لاتبيح المحظورات، وإنما الضروات تؤصل لاجتياح الصعوبات وخلق الآليات التي تسمح لهذه الضرورات ان تنمو وتزدهر.. فالإصلاحات ضرورية ولكن الوصفات الجاهزة او الانقضاض علي المؤسسات المدنية وفرض إيديولوجيات بعينها مرفوضة وقد تعيق فلسفة الإصلاح من أساسه، ولذلك فإن أي انقضاض فاشي علي أية إصلاحات جارية او مرجوة لهو بمثابة عودة الدولة مرة اخري الي ماقبل المدنية. ان محاولات الطوائف الفاشية للسيطرة والانقضاض علي مؤسسات الدولة لم تقف عند اختراقها لمراكز الابحاث والدراسات السياسية والاجتماعية وانما باتت تمتد لتصل حتي للمنظمات المدنية ومنظمات حقوق الانسان. لقد آن الأوان ان تعي جميع القوي السياسية المدنية انه لامستقبل لهذه الامة مع تفشي الطوائف ذات الاصول الفاشية ومحاولة تديين الدولة وفرض اجندات ماضوية علي مستقبل الامة.. وألا تنخدع القوي السياسية بالشعارات الديماجوجية التي افسدت حياتنا السياسية وجرت الهزيمة تلو الاخري.. فقد حان الوقت في ظل هذا الحراك والتفاعل السياسي الرشيد والمنضبط والذي تحكمه آليات قانونية ان تخطو مصر خطوات ايجابية للوصول للدولة المدنية الحديثة المعاصرة التي من اول شروطها تحقيق الاستقلالية لجميع المؤسسات المدنية من خلال تدعيم فلسفة القانون ودحض اية ممارسات للانقضاض عليها سواء بدولنتها او بأدلجتها بأيديولوجيات طائفية او فاشية.