أما وقد استعاد الديمقراطيون في أمريكا أغلبية الكونجرس بمجلسيه، تطل علامات الاستفهام برأسها حول إمكانية حدوث تغيير في السياسة الأمريكية حيال العراق من شأنها أن تفضي إلي سحب القوات الأمريكية من هناك في الأمد المنظور. وظني أنه لن يكون من الحكمة التسرع في الإجابة علي مثل هذه التساؤلات بالإيجاب ،وذلك لاعتبارات عديدة استهلها بالتذكير بأن الرئيس بوش لا يزال أمامه في السلطة عامان وهو مصر علي البقاء في العراق إلي حين تحقيق نصره الوهمي ولم يعد بحوزته ما يخشي عليه بعد فقدانه أغلبية الكونجرس ثم انتهاء ولايته الثانية والأخيرة. أما ثاني تلك الاعتبارات، فيتمثل في التوافق الإستراتيجي بين الجمهوريين والديمقراطيين، ذلك أن مساحة الاختلاف أو التباين بين الجمهوريين والديمقراطيين قد تنحو باتجاه الاتساع بعض الشيء حول الأمور الداخلية في حين تميل إلي الانحسار والتضاؤل فيما يتصل بقضايا السياسة الخارجية، لاسيما تلك المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط عموما والشأن العراقي منها علي وجه الخصوص. إذ يمكن القول إن الجمهوريين والديمقراطيين يكادون يتفقون علي أهمية التموضع الإستراتيجي الأمريكي في هذا البلد بالنسبة للاستراتيجية الكونية لبلادهم في المرحلة المقبلة،كما يتلاقون علي استحالة الانسحاب من العراق في الظروف الراهنة، غير أن ذلك الاتفاق وهذا التلاقي قد لا يحولان دون بروز أية خلافات في وجهات النظر بين الجانبين بشأن سبل تحقيق تلك الغايات. وبكلام موجز،فإن الجمهوريين والديمقراطيين يتفقون كليا في الإستراتيجية لكنهم قد يختلفون جزئيا في التكتيكات. ومن ثم، يمكن الزعم بأن هجوم الديمقراطيين علي أداء الجمهوريين في العراق إنما يأتي في سياق المعارضة السياسية التي يتم توظيفها لأغراض المنافسة الانتخابية ليس أكثر عبر الاستفادة من أخطاء الخصم الجمهوري، الذي أساء التعاطي مع الملف العراقي فأزهق أرواح زهاء3000 قتيل أمريكي وأنفق 337 مليار دولار حتي الآن دونما تحقيق أية إنجازات ملموسة خاصة فيما يتعلق بإعادة بناء الدولة العراقية، وهو الإخفاق الذي يرجعه الديمقراطيون إلي تبني الجمهوريين تكتيكات فاشلة لتنفيذ إستراتيجية يتفق الطرفان علي ضرورتها للمصالح الأمريكية، ومن ثم لن يقدم الديمقراطيون حاله فوزهم سوي تكتيكات بديلة لتنفيذ نفس الإستراتيجية بوسائل أخري وخطاب سياسي مختلف. ثالثا،تغليب المصالح الإستراتيجة الأمريكية، حيث يخطيء من يظن أن لدي الأمريكيين، لاسيما الساسة والمسئولون منهم، ما يفوق في أهميته المصالح الإستراتيجية العليا للولايات المتحدة، إذ لا يمكن لأية خلافات سياسية حول بعض الأمور الداخلية أو الخارجية أن تفت من عضد الإجماع الأمريكي علي سمو تلك المصالح فوق أي تنوع عرضي أو اختلاف ظاهري. وتأسيسا علي ذلك، لم يكن غزو العراق واحتلاله مجرد نزوة لرئيس جمهوري أرعن تسيطر عليه مجموعة متصهينة متعطشة لدماء العرب والمسلمين، وبالتالي وجب عليه التراجع والاعتذار، وإنما هو عملية مخططة تمثل حلقة في مسلسل إجراءات تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية العالمية الرامية إلي حماية المصالح الإستراتيجية الكونية للقطب الأوحد، والتي يمثل النفط موقع القلب منها، وهي الإستراتيجية التي سبق تدشينها واتخاذ القرار بالبدء في تنفيذها ربما قبل مجيء إدارة بوش إلي البيت الأبيض. لذلك، يغدو من السابق لأوانه تصور أن يفضي فوز الديموقراطيين في الانتخابات النصفية إلي انسحاب القوات الأمريكية من العراق، حيث يتعلق الأمر في جوهره بنظرة الولاياتالمتحدة الي مستقبل المنطقة التي تمتد إلي ما وراء بحر قزوين في الشرق، وتصل الي شواطئ المحيط الأطلسي في الغرب، وتعوم علي محيط من النفط والغاز مثلما تعد مرتكزا محوريا للتفاعلات الاستراتيجية الدولية مستقبلا،علي النحو الذي يجعلها تستأثر بنصيب الأسد من الاهتمام الأمريكي حسبما بدا في الاحتفاظ بأكثر من 150 ألف جندي أمريكي بالعراق ونشر عشرات القواعد العسكرية فضلا عن إقامة اكبر سفارة لواشنطن في العالم علي ضفاف نهر دجلة. رابعا، اعتبارات المكانة الأمريكية، فمن المستبعد علي أية إدارة أمريكية أن تتحرر من النزعة الأنجلو ساكسونية الطاغية نحو قيادة العالم والتحكم في مفاتيح قوته وأسباب السيطرة عليه في زمن القطبية الأحادية. وربما لم تكن الظروف مهيأة أمام واشنطن لبلوغ تلك المآرب وتعزيز هذه التوجهات،مثلما كانت خلال السنوات الخمس الماضية،حيث أتاحت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 لإدارة بوش فرصة ذهبية لبسط الهيمنة الأمريكية علي العالم بذريعة محاربة الإرهاب العالمي بشتي صوره، وبعد أفغانستان جاء احتلال العراق والتموضع العسكري في ربوعه من أجل إحكام السيطرة علي منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الجيوإستراتيجية البالغة، وكذا أقاليم آسيا الوسطي والقوقاز، حيث أمن الطاقة المستقبلي. لذا، لم يكن متصورا أن تتجاسر أية إدارة أمريكية علي التضحية بإعتبارات المكانة الأمريكية، التي يعد الوجود العسكري في العراق أحد أبرز ملامحها، خامسا، تسوية القضايا العالقة، فبقدر ما كانت الولاياتالمتحدة هي صاحبة القول الفصل في غزو العراق واحتلاله، إلا أنها لم تكن الطرف الوحيد المستفيد من هذين الأمرين،فهناك قوي إقليمية ودولية وعراقية أخري قدمت إسهامات جليلة للأمريكيين في هذا الصدد وكان علي واشنطن مكافأتها. فإسرائيل علي سبيل المثال، قدمت مساعدات استخباراتية ولوجيستية إبان الغزو، وهي تتوخي من وراء ذلك مصالح حيوية لها تتعدي مجرد الإجهاز علي المقدرات الاقتصادية والعسكرية للعراق، ولا يمكن أن تقبل تل أبيب بانسحاب القوات الأمريكية من العراق قبل وضع أسس لحماية تلك المصالح المستقبلية في هذا البلد وفي المنطقة برمتها. وهناك أيضا أكراد العراق، الذين أسهمت قوات البيشمركة التابعة لهم في إسقاط نظام صدام وتسهيل الاحتلال الأمريكي لبغداد، غير أنهم أصبحوا شبه مستقلين في دولتهم بإقليم كردستان وبدأوا يكشرون مؤخرا عن أنيابهم من خلال الشروع في اتخاذ التدابير التي تضمن لهم الاستئثار بنفط الإقليم كالتعاقد مع شركات نفط عالمية للتنقيب عن النفط في الإقليم لمصلحتهم،فضلا عن سعي حكومة إقليم كردستان، التي تدير شئون أربيل، والسليمانية ودهوك وتحظي بمباركة ودعم الأمريكيين، إلي تقديم ميزانية النفط إلي البرلمان الكردي الذي يصر علي حق الحكومة الكردية دون سواها في عائدات نفط الشمال العراقي. الأمر الذي لا ينذر فقط بحدوث حرب أهلية عراقية وإنما يهدد أيضا المصالح النفطية وأمن الطاقة الأمريكيين. أما الشيعة، الذين التزموا عدم الانخراط في المقاومة ضد قوات التحالف في باديء الأمر ،فقد انقلب نفر منهم علي الأمريكيين والحكومة العراقية، إذ أضحي الزعيم الشيعي مقتدي الصدر وجيش المهدي يمثلان تحديا أمنيا يضاعف من الفشل الأمريكي في العراق. كما أمسي الشيعة أيضا يتقاتلون فيما بينهم اليوم حول مشروع الفيدرالية، و باتوا يصارعون السنة علي النفوذ والثروة. كل هذه أمور تحتاج، بلا شك، لحسم حكيم يضمن عدم تفجر الأوضاع وتجنب سيناريوهات كارثية، ليس أسوأها فتح أبواب العراق علي مصارعها أمام نفوذ سوريا أو إيران، التي قد يساعد الانسحاب الأمريكي المخزي والمفاجيء من العراق علي تحولها إلي قوة نووية مهمة ،كما لا يستبعد أن تمسي العراق مرتعا آمنا ورحبا لتنظيم القاعدة.