لم أكن لاعبا جيدا لكرة القدم أبدا، فاعتزلت مبكرا للغاية وأصبحت من مشاهدي اللعبة قدر ما يسمح الوقت والطاقة. وخلال الأعوام الأخيرة وجدت أن هناك علاقات وثيقة _ بالشبه والممارسة _ بين السياسة وكرة القدم حيث أصبحت الأخيرة صورة نقية من الأولي حيث تتم المنافسة دون تدخل من عناصر خارجة علي مهارة اللاعبين. وبدون الدخول في كثير من التفاصيل أخذت في متابعة اللعبة وعيني علي مغزي السياسة، فلم تعد المنافسة بين الأهلي والزمالك وإنما المنافسة بين أحزاب سياسية، ولم يعد هناك تحديد للفوز بكأس العالم وإنما الانتصار في معركة التخلف وتحقيق التقدم، وفي النهاية لم تعد المسألة فوز فريق علي آخر وإنما إلي أحد يعكس ذلك حالة الحرية في مجتمع ما. وأعترف أنه منذ البداية كان هناك دوما قدر ما من التعسف، فالسياسة لم يحدث أبدا أن كانت لها حالة نقية، وكرة القدم لم تكن أبدا خالية من تفضيلات الحكام. ولكن من قال بوجود تحليل دون قدر ما معلوم أو غير معلوم من التحيز، فإذا لم يكن هناك بد مما ليس منه بد فإنه من المفضل أن يكون التعسف مع قدر ما من المتعة. وسبب هذه المقدمة كلها هو ما حدث لمدرب النادي الأهلي إيمانويل جوزيه ولاعبه الأنجولي فلافيو خلال العام الماضي حينما قام المدرب المرموق بإشراك اللاعب في جميع المباريات التي شارك فيها النادي. ومرت المباريات الواحدة بعد الأخري وكان النادي يفوز بمعظمها وفلافيو _ المهاجم _لا يستطيع التسجيل إلا بهدف واحد قيل أنه جاء عن طريق الصدفة عندما اصطدت كرة شاردة بقفاه ودخلت المرمي. وفجأة انفتحت أبواب جهنم علي المدرب البرتغالي من كل الصحف المصرية تقريبا، وتباري النقاد واحدا بعد الآخر في التأكيد علي عدم حصافة جوزيه، بل وأرجع بعضهم مشاركة اللاعب إلي أن المدرب لديه حالة " عند " مع النقاد والجمهور. ولم يكن لدي البرتغالي ما يدفعه إلي العند، كان النادي الأهلي يحصد البطولات، وحتي وصل إلي كأس العالم للأندية، وكان في السابق تحت قيادة المدرب قد فاز علي ريال مدريد في مباراة غير رسمية، وبالنسبة لإقليمنا العربي والإفريقي لم يبق للنادي الأهلي أندية أخري لتهزم؛ تماما كما قال الإسكندر الأكبر وعقبة ابن نافع عندما لم يعد لديهما أرض جديدة لتقهر. ومع كل هذه الإنجازات كانت حالة فلافيو هي الحالة الوحيدة التي يجدها بعضنا في الصحافة الرياضية وغير الرياضية نوعا من الخلل في شخصية المدرب، ودلالة علي أن في منجزاته علة ما لن تلبث أن تعلن عن نفسها. وبالنسبة لم تكن هناك مشكلة، وطالما كان النادي الأهلي يفوز علي الدوام، فلم يكن هناك ما يمنع من تجربة فلافيو طوال الوقت وخاصة أنه اللاعب الوحيد الذي يعرف لغة البرتغال، وكان التساؤل المطروح هو كيف تجاوز كلاهما العلاقة الاستعمارية المتصورة بينهما. ولكنني تذكرت أن عددا من المدربين الإنجليز قاموا بتدريب أندية مصرية وحتي المنتخب القومي أيضا وكانت علاقات المصريين والإنجليز سمنا علي عسل. ومع ذلك بقيت مشكلة النقاد حالة خاصة وأن فلافيو كان شبه مضرب عن التسجيل، مما دفعني لمراقبة حالته في الملعب بشكل دقيق، ومحاولة تقييم الأمر بموضوعية كاملة. وكانت النتيجة هي أن فلافيو كان يلعب بالفعل وبشكل جيد حتي ولو لم يسجل هدفا واحدا، كان اللاعب سريعا ويتحرك من مكان لآخر بحيث يخلخل دفاعات الخصم كما تقوم المراوح بخلخلة الهواء أمام الطائرة فتندفع إلي الأمام، وكان أبو تريكة ومتعب هما الطائرة هذه المرة. لم تكن المسألة عندا أو تمسكا بالرأي أو تعصبا بلغة، وإنما قدرة فنية علي قراءة الملعب، وقراءة اللاعبين لم تلبث أن أسفرت عن نتائجها مع الموسم الحالي عندما قام اللاعب بالتسجيل في كأس العالم ثم في المباريات المحلية بعد صبر دام سنة لدي المدرب، وبعد عام من لعنات النقاد لم يقم أحد بمراجعتها بعد أن ثبت أنها لم تكن صائبة. وهنا تحديدا تأتي السياسة لكي تشهر عن نفسها، فالقضية غير متعلقة بقدرة لاعب أو قرارات مدرب، وإنما المسألة هي أن قدرتنا علي تقييم الأمور التي تأخذ وقتا ضعيفة للغاية، فما لم تكن النتائج جاهزة في التو واللحظة فلابد أن في الأمر أمرا وفي القضية ملعوب. فقد كان جوزيه يعلم الحالة الحقيقية للاعب، كما كان يعلم الحالة الحقيقية لبقية الفريق، وكان لديه خطة للتعامل مع الموقف كان يعرف أنها كلها لا تتعلق بالتدريب أو المهارة وإنما بقدر من التوفيق، ولكنه كان يعلم جيدا أن التدريب والمهارة كفيلان في النهاية بإحضار التوفيق والحظ. ومن ناحيتنا كان الفوز مطلوبا، وكان الشك في " الخواجة" قائما كما نشك في كل الأجانب، وفي الحالتين كان الصبر محدودا وكانت قدرتنا علي التقييم الموضوعي فقيرة للغاية. ولحسن الحظ أن النادي الأهلي كانت لديه قيادة صبورة، وكانت مؤمنة بالفصل بين الإدارة والعمل الفني، ولم تكن عقدة الخواجة والشك في الأجنبي مسيطرة عليها، فحصدت الكؤوس وسجل فلافيو في النهاية. وهي فكرة تصلح لقضايا ومسائل قومية ووطنية كثيرة نعترف فيها بحدود قدراتنا ومعلوماتنا ومعرفتنا، فهناك الكثير الذي يجب أن نتعلمه في دنيا الله الواسعة !!