ثمة مؤشران لاحا في سماء الجدل السياسي والإستراتيجي الذي دارت رحاه مؤخرا في منطقة الشرق الأوسط عقب صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 بشأن وقف الأعمال الحربية في الجنوب اللبناني، يبرزان حجم المعضلة الأمنية التي باتت تلقي بظلالها علي الأمن الإقليمي لدول المنطقة جمعاء مثلما طاولت نظام الأمن الجماعي الذي طالما تطلع إلي بلوغه المجتمع الدولي من خلال منظمة الأممالمتحدة. أول هذين المؤشرين تمثل في ذلك الجدل العربي الحامي الوطيس، الذي بلغ مستوي الخلاف والتباين بين الأنظمة العربية وداخل كل دولة عربية علي حدة، حول الأمن الإقليمي العربي ومفهوم الأمن القومي. وثانيهما، تجلي في السجال الذي طغي علي الداخل الإسرائيلي بشأن تقويم النتائج التي تمخضت عنها الحرب الأخيرة في لبنان وإمكانية اعتبار ما قام به الجيش الإسرائيلي خلالها انتصارا حقيقيا علي مقاتلي حزب الله.ففي كلتا الحالتين، إحتدم الجدل وأثيرت التساؤلات حول أهداف بدت مختلفة وغايات ظلت متباينة، غير أن المعضلة الأمنية في منطقة لا تزال حبلي بالتوترات والمواجهات علي أكثر من صعيد وبدرجات متفاوتة، ظلت هي القاسم المشترك الأهم علي طول الخط، سواء علي الجانب العربي أو فيما يتصل بالصعيد الإسرائيلي أو حتي علي المستوي الدولي الأوسع. فعربيا، تباينت الآراء مجددا حول مفهوم الأمن القومي العربي، الذي بدا أن العدوان الإسرائيلي علي لبنان قد حرر شهادة وفاته وشيعه إلي مثواه الأخير، فالأنظمة العربية باتت متفقة علي اختزال هذا المفهوم في أمن كل دولة علي حدة دون الأخري، متخذين من المثل الشعبي المصري، الذي يعلن خلاله "جحا" عدم إكتراثه بالنيران التي تأكل دار جاره طالما أنها لم تصل بعد إلي حدود داره، مرجعية ونبراسا، فيما تناست الأنظمة العربية أن للأمن مفهوم أشمل بكثير من أي منظور عسكري ضيق، حيث يمتد ليشمل جوانب أخري سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، ذلك أن اتساع الفجوة بين الحكام والمحكومين في العالم العربي من شأنه أن يهدد الأمن الوطني لكل دوله علي حدة، حيث إن بوسعه النيل من الاستقرار السياسي للدولة الذي يعد ركنا ركينا من أركان أمنها الوطني، وهو ما ينعكس بالسلب علي الأمن القومي العربي بمفهومه الإقليمي. بعبارة أخري ،يمكن القول إن إنسحاب الأنظمة العربية وتعمدها تقليص دوائر أمنها الوطني داخل حدودها بعد تنكرها لمفهوم الأمن القومي العربي بمفهومه الواسع، قد أوجد لتلك الأنظمة مشاكل سياسية داخلية عديدة لا تقل في خطورتها وتهديدها للأمن الوطني للنظام وللدولة برمتها في آن عن التهديدات والمخاطر العسكرية التي تتربص بالدولة من الخارج. وعلي الصعيد الإسرائيلي، برز التفسير الأوسع لمصطلح الأمن، حسبما ورد علي لسان ديفيد بن جوريون مؤسس دولة إسرائيل، والذي إرتأي أن أمن الدولة العبرية إنما يتعدي التصور العسكري الضيق ويتسع بدوره ليشمل جوانب أخري عديدة تتمثل في: توطين وتسكين المناطق الخالية من السكان في شمال الدولة وجنوبها، وتوزيع السكان علي نحو إستراتيجي، وإنتشار صناعات في أنحاء الدولة المختلفة، تنمية الزراعة، إقامة نظام اقتصادي يرتكز علي قاعدة الاكتفاء الذاتي، إلي جانب السيطرة علي البحر والجو وتحويل إسرائيل إلي قوة إقليمية هامة، علاوة علي الاستقلال الاقتصادي ودعم مجالات البحث العلمي وتنمية القدرات في مختلف مجالات العلم والتكنولوجيا، إلي جانب التدريب المهني ذي المستوي العالمي للشباب، ثم تعبئة الجهود الطوعية من جانب المواطنين عامة والشباب بصفة خاصة في مجالات التوطين والأمن وإدماج المهاجرين. بيد أن مثل هذا المفهوم الشامل والموسوعي للأمن القومي الإسرائيلي من وجهة نظر بن جوريون، لم يكن ليسهم في ملأ الفجوة الأبدية بين الأمن القومي أو الوطني للدولة العبرية، والذي يرمي إلي بقائها ونهضتها وحماية حدودها ومصالحها الخارجية من جهة، وبين ذلك المتعلق بأمن المواطن وسلامته وشعوره بالأمان داخل حدود بلاده، وتلك مسألة في غاية الأهمية بالنسبة للمواطن الإسرائيلي الذي يتملكه شعور بالغربة والعزلة عن محيطه العربي والإسلامي، من جهة أخري. فمن ذلك الأخير، ينبثق مفهوم الأمن الإنساني أو الذاتي الذي يتعلق بتمكن الدولة من السيطرة علي التهديدات التي تحيط بالأفراد وتحجيمها أو تقويضها قدر الإمكان، وههنا تعن إشكالية الأمن لدي المواطن الإسرائيلي والمتمثلة في عجز القوة العسكرية الهائلة عن توفير الشعور بالأمن للمواطن العادي. ففي أعقاب حرب الأيام الستة عام 1967، كان لدي الإسرائيليين ثقة كاملة في قدرة جيش بلادهم من الناحية العسكرية علي التغلب علي أعدائه، إلا أن المواطن العادي في إسرائيل لم يتخلص نهائيا من حساسيته المفرطة إزاء أية مفاجآت إستراتيجيه تتعلق بأمنه الشخصي علي نحو ما بدا جليا في حرب أكتوبر 1973. وخلال حرب الخليج في عام 1991، وبالرغم من تواضع الآثار التدميرية لصواريخ سكود التي أطلقها الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين باتجاه العمق الإسرائيلي في حينها، لوحظ تعاظم التأثيرالنفسي والمعنوي لتلك الصواريخ علي المواطن الإسرائيلي وهواجسه الأمنية، حيث ثارت مخاوف من احتمال اندلاع حرب كيماوية يتمكن خلالها صدام أو غيره من إمطار الدولة العبرية بمئات وربما آلاف الصواريخ المزودة برءوس حربية كيماوية أو بيولوجية من شأنها أن تجهز علي الآلاف من الإسرائيليين، حيث تم إستحضار المذابح التي كان يتعرض لها اليهود علي أيدي النازي حينما كانوا يقتادون إلي غرف الغاز وأفران الصهر. وإبان الحرب الإسرائيلية الأخيرة علي لبنان، بدا جليا تأثير صواريخ حزب الله علي مواطني إسرائيل، الذين إضطر أكثر من مليون منهم إلي التخندق داخل الملاجيء لما يربو علي شهر كامل مخافة التعرض لتلك الصواريخ ذات الأثر التدميري المتواضع أيضا، لاسيما بعد أن نجع مقاتلو حزب الله في الإجهاز علي حياة ما يربو علي 150 إسرائيليا وجرح مئات آخرين من العسكريين والمدنيين علي السواء، فضلا عن إلحاق خسائر مادية هائلة بمعدات الجيش الإسرائيلي، الأمر الذي سلط الضوء علي ثغرة إستراتيجية مهمة لدي الإسرائيليين تتمثل في الانكشاف الإستراتيجي الواضح لدولتهم أمام محيطها العربي، وهو الإنكشاف الناجم عن إفتقاد الدولة العبرية للعمق الإستراتيجي الذي من شأنه أن يعينها علي امتصاص الضربات الخارجية واحتواء آثارها التدميرية بأقل خسائر ممكنة علي الصعيدين البشري والمادي. كما طرحت من جانب آخر تساؤلات عديدة حول العلاقة بين أمن الدولة وأمن المواطن، أو بين الأمن القومي والأمن الإنساني، حيث ينأي ذلك الأخير بمفهوم الأمن عن كونه مجرد هدف في ذاته، وجعله وسيلة للحفاظ علي حياة المواطن وتحقيق رفاهيته في دولة مستقرة وآمنة.