أحرزت العولمة العديد من السلبيات والتحديات أمام الحكومات في مختلف الدول النامية والمتقدمة علي السواء، حيث أوضح "كوفي أنان" الأمين العام للأمم المتحدة أن ثمار العولمة المتوحشة أسفرت حتي الآن عن حوالي 192 مليون شخص فقدوا وظائفهم حسب إحصائيات عام 2005، وأن ثلاثة أمثال هذا الرقم يعملون في وظائف لا تسمح لهم بالخروج من براثن الفقر المدقع الذي يقصم ظهورهم بدولارين يوميا. وتعمل معظم هذه العمالة في المناطق الريفية والقطاعات غير الرسمية التي تنتشر في المدن، وهي القطاعات التي تمثل ما يقرب من نصف إلي ثلاثة أرباع العمالة غير الزراعية في الدول النامية، كما أن نصف العاطلين عن العمل في العالم من الشباب الذين تضيع أفضل سنوات عمرهم في حلم لا يتحقق، رغم أنهم لا يشكلون سوي ربع القوي العاملة في العالم. ويشير الأمين العام في تقريره إلي أن ضغوط التنافسية في ظل العولمة لم تؤد فقط إلي المرونة في الأجور وتخفيض الضرائب، وإنما جاءت في وقت تقوم فيه الحكومات بتخفيض إنفاقها في قطاعات حيوية بالنسبة للفقراء مثل الصحة والتعليم ونظم الحماية الاجتماعية، ولذلك لم ينخفض معدل الفقر والحرمان رغم كل المبادرات الدولية من أجل القضاء علي الفقر من جميع خبراء العالم في هذا المجال، وظل 4.1 مليار نسمة يمثلون نصف الأفراد القادرين علي العمل تقريبا يعانون من الفقر والبطالة وسوء الأحوال الاجتماعية، ولم تتحسن أموالهم طوال 14 عاما بذلك خلالها جهودا دولية لمواجهة الفقر من جانب المؤسسات الدولية، وقد طالب "أنان" المجتمع الدولي بالاهتمام بتوفير فرص عمل لائقة للرجال وللنساء علي السواء، وأن تكون الفرص منتجة وفي ظروف تتصف بالحرية والأمان والمساواة ومراعاة حقوق الإنسان. ولا يخفي أنه في ظل الظروف التي أشار إليها "أنان" عادة ما تنمو وتزدهر بيئة مواتية لانتشار الفساد الاجتماعي، حيث تنتشر تجارة الأطفال والنساء والبغاء وبيع أو تجارة الأعضاء البشرية علي سبيل المثال، مما يجعل الدول النامية شريكة للدول المتقدمة في الغش والسرقة والكذب والتجارة المحرمة من الناحية الأخلاقية والقانونية، والرشوة التي يعتقدون أنها السبيل الوحيد لحماية أصول شركاتهم العملاقة في الأراضي الأجنبية. ولمواجهة الفساد الاجتماعي للعولمة توحدت مجموعة من منظمات المجتمع المدني وتضم أعضاء نقابات العمال والمزارعين والفلاحين الأجراء ومنظمات المرأة والمنظمات الشبابية وصغار أصحاب الأعمال ومنتجي المشغولات اليدوية ومنظمي العدالة الاقتصادية والداعين إلي إصلاح السجون وعلماء البيئة، ونشطاء مكافحة الإيدز، والسياسيين، والمنظمات الإعلامية المستقلة والموظفين الحكوميين، والمشردين، ومنظمات السلام وحقوق الإنسان، وجماعات الشواذ والمثقفين وجمعيات حماية المستهلكين، وبعض رؤساء الشركات من مختلف الأعمار والأديان والأجناس والجنسيات. وقد جاء هذا التحالف نتيجة الاهتمام التلقائي أو العفوي لملايين البشر بحقيقة أن مستقبلهم ومستقبل أطفالهم يعتمد علي ممارسة حقوقهم الديمقراطية للمشاركة في صياغة القرارات التي تشكل مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. وبذلك صار المجتمع المدني مجتمعا معولما في ضوء التغيرات العالمية الجديدة، وانضمت إليه جهات لم تكن موجودة من قبل علي مستوي العالم مثل "حركة اليوبيل" التي تسعي إلي الضغط من أجل تخفيض ديون الدول الأكثر فقرا في العالم. وهكذا وجد المجتمع المدني العالمي أو العابر للحدود القومية، باعتباره اتحادا كبيرا لمنظمات المجتمع المدني من جميع الاتجاهات والميول السياسية والقادر علي الاتحاد حول العديد من القضايا التي تستهدف مناصرة الفقراء ومعارضة العولمة الشرسة الاجتياحية وما يرتبط بها من الشركات متعدية الجنسيات، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، ويمكن لمثل هذه المؤسسات الخاصة بالمجتمع المدني العابر للحدود أن يكون لها دور مهم وحاسم في المستقبل المعولم من خلال استراتيجيات المحافظة علي القدرة التنافسية ووجود شركات عالمية ذات رموز تقدمية مبتكرة للسلوك الاجتماعي والبيئي والمحصنة ضد الانكشاف المالي الناتج عن سوء السلوك الأخلاقي أو الضرر البيئي. مثال ذلك مخططات الرعاية المسئولة للمجلس الكيميائي الأمريكي والتي تسمح بالمراقبة من جانب طرف ثالث للالتزام بالمواصفات الصناعية والمحافظة علي البيئة وحماية حقوق الإنسان، وفي حالة وجود نظام للمحاسبة عالميا تتولاه أو تديره أية وكالة عالمية تصبح منظمات المجتمع المدني المستقلة هي التي تراقب وتبلغ عن المخالفات وتقدم الشكاوي وتنفذ العقوبات النهائية، فضلا عن الدفاع عن القيم المجتمعية. وقد نشطت جمعيات حماية البيئة في جعل أنشطتها ذات طابع عالمي من خلال إقناع الحكومات بإعادة توجيه الثروة للعناية بالفقراء في جميع أنحاء العالم، والتحول من نمط الترف الاستهلاكي إلي الإنفاق علي مشروعات إنتاجية واستثمارات بدلا من شراء السيارات الرياضية، وسيارات الثلج التي تستخدم في الأغراض الترفيهية. كما تدعو منظمات المجتمع المدني إلي تطبيق المعايير البيئية علي المنتجات القادمة أو المستوردة إلي الدول المتقدمة من الدول النامية بتكلفة منخفضة ومساعدة المنتجين في تلك الدول النامية بتعويضات عادلة ومنصفة لها والمحافظة علي البيئة الطبيعية داخل أراضيها. وقد تصدت كثير من مؤسسات المجتمع المدني العالمي لبعض القضايا الصحية المرتبطة بالعولمة الفاسدة مثل قضية ألبان الأطفال، وقضية المحطات النووية للطاقة، وقضية الألغام الأرضية، حيث تحركت العديد من منظمات المجتمع المدني الدولية للمطالبة بحظر إنتاج وتخزين واستعمال الألغام الأرضية وتوقيع معاهدة حظر الألغام الأرضية عام 1997. وقد ساعد انتشار الحاسبات الآلية وشبكات ربط المعلومات العالمية علي وجود نوع من التفاعل السريع والالتقاء الفوري بين مؤسسات المجتمع المدني علي مستوي العالم، وكسر احتكار الحكومات لتجميع وإدارة المعلومات وتخفيض تكاليف الاتصال وسرعة التنسيق والاستشارات، وتمكنت مؤسسات الأعمال ومنظمات المواطنين والجماعات العرفية وكارتلات الجريمة جميعها من تبني نموذج الشبكات بسهولة، ومن ثم ظهر ما يعرف ب "القطاع الثالث الجديد" وهو المجتمع المدني العالمي.