أتت الغارة الإسرائيلية الغاشمة علي قرية قانا اللبنانية، لتعمق مأساة البلدة اللبنانية التي يبدو أنها ألفت المجازر الإسرائيلية منذ الغارة الأولي التي استهدفتها عام 1996 وخلفت العديد من الضحايا في صفوف المدنيين. غير أن المجزرة الحالية التي أوقعت 57 قتيلاً، حصيلة الأطفال منهم بلغت 32، كانت أكبر من أن تدرج في سياق محاربة الإرهاب، أو تعقب مقاتلي "حزب الله"، بل هي محاولة للاقتصاص من الأهالي ودفعهم إلي التخلي عن دعمهم للمقاومة. وهي بهذا تعتبر انعطافة كبري قد تغير مجري الحرب وتؤلب الرأي العالم العالمي ضد الجيش الإسرائيلي الذي لا يفرق بين المدنيين والمقاتلين. وفي هذا السياق يحق لنا أن نتساءل عن سبب تأخر حكومات العالم في التحرك السريع لإدانة المجزرة واستنكار تصرف الجيش الإسرائيلي الذي لا يتورع عن الاستعمال المفرط للقوة حتي لو أدي ذلك إلي سقوط العشرات من المدنيين العزل. لقد تعودنا في المرات السابقة أن يكون هناك حاجز سيكولوجي ما أن تتخطاه الآلة العسكرية الإسرائيلية حتي تثور ثائرة الرأي العام الدولي لتبدأ الأمور بالتغير لغير صالح إسرائيل تحت ضغط الأطراف الدولية المنتقدة للسياسات الإسرائيلية. ومع ذلك فإن مجزرة قانا لم تكن مستبعدة، بل كانت في واردة الحدوث بالنظر إلي اعتماد إسرائيل الكلي علي القوة الجوية واستهدافها لمناطق مأهولة ما يضاعف من احتمال سقوط الضحايا من المدنيين. ومهما بلغت دقة القذائف الإسرائيلية الموجهة التي يطلقها سلاح الطيران، لن تستطيع تحاشي المدنيين لفترة طويلة، ما ينذر بحدوث المجازر. وإسرائيل التي كانت تعرف جيداً خطورة الموقف وإمكانية تكرار تجارب سابقة لمجازر مشابهة، أمعنت في استخدام قوتها العسكرية في محاولة لتحقيق نصر سريع علي "حزب الله" وتقويض قوته. ورغم الأمل الذي كان معقوداً علي المجتمع الدولي في التنديد بإسرائيل والضغط عليها لوقف العدوان، فإنه لاذ بالصمت طيلة الفترة السابقة وكأنه بذلك يوفر تغطية واضحة للعمليات العسكرية الإسرائيلية، وعجز عن التحرك في اتجاه الإدانة الحازمة وإيصال رسالة صريحة إلي إسرائيل تحذرها من عواقب سياستها علي مستقبل المنطقة. وإذا كانت الولاياتالمتحدة وبريطانيا ترفضان إلي حد الآن فرض وقف فوري لإطلاق النار يجنب لبنان بعضاً من الدمار الذي لحق به قبل التوصل إلي اتفاق سياسي، فإن دولاً أخري في أوروبا بدأت ترفع عقيرتها مطالبة بوقف فوري لإطلاق النار، علي أن يتم التباحث بعد ذلك في تفاصيل الحل السياسي الذي يأخذ بعين الاعتبار مصالح الأطراف كافة، بدءاً من تأمين شمال إسرائيل وضمان عدم انطلاق صواريخ كاتيوشا من الجنوب اللبناني، مروراً بتبادل الأسري بين الطرفين، ثم انتهاء بالانسحاب من مزارع شبعا وترسيم الحدود. وتجدر هنا الإشارة إلي أن موقف الحكومات الأوروبية لا يتماشي تماماً مع الموقف الشعبي الذي رفض منذ البداية الاعتداءات اليومية التي تتعرض لها البنية التحتية اللبنانية، مندداً في الوقت نفسه بإطلاق الصواريخ علي شمال إسرائيل. ولم تقتصر المظاهرات المنددة بالعدوان علي الشارعين العربي والإسلامي، بل امتدت أيضاً إلي الشارع الأوروبي الذي لم يخفِ تعاطفه مع المحنة اللبنانية واستنكاره للاستعمال الأهوج للقوة العسكرية من قبل الجيش الإسرائيلي. الحكومة الإسرائيلية من جانبها عبرت عن أسفها علي مقتل المدنيين في قانا، لكنها حملت المسؤولية إلي عناصر "حزب الله" الذين قالت بأنهم يحتمون بالمناطق المدنية ويتخذون من المدنيين دروعا بشرية! والأغرب من ذلك أنها وصفت المجزرة الرهيبة التي راح ضحيتها الأطفال والنساء، علي أنها "حادثة"، وحسب بيان أصدرته الحكومة الإسرائيلية، وهو ما أثار اندهاش الكثيرين الذين كانوا يتوقعون اعتذاراً صريحاً عن العملية التي أزهقت أرواح المدنيين دون وجه حق! وهكذا أصبحت إسرائيل تعاني من عزلة دولية، لا سيما لدي الرأي العام الذي لم يعد يقبل الاعتداءات علي المدنيين، رغم الالتفاف الشعبي داخل إسرائيل حول الحكومة وتماسك جبهتي اليسار واليمين في تأييدهما للحرب علي لبنان. ومع أن التغطية السياسية التي توفرها الولاياتالمتحدة، تحول دون إدانة من مجلس الأمن الدولي لإسرائيل، سواء تعلق الأمر بمجزرة قانا، أو بقتل أربعة أفراد من قوات حفظ السلام في جنوب لبنان، فإن استياء الدول الأخري يؤشر إلي أن إسرائيل لن يكون في مقدورها الاستمرار في ارتكاب الجرائم تلو الجرائم دون مساءلة. ولا ننسي أنه في عالم تتحدد فيه السياسة الخارجية للدول اعتماداً علي الرأي العام، يكتسي هذا الأخير الذي يعارض الحرب علي لبنان، دوراً حاسماً في كشف الموقف اللاأخلاقي لإسرائيل في هذه المواجهة وفضح ممارساتها المنافية لسلوكيات الدولة المدافعة عن نفسها كما تحاول أن تظهر أمام العالم. وإذا استمرت إسرائيل في عدوانها واستمر موقفها الأخلاقي في التردي فليس مستبعداً أن نشهد تكرار سيناريو 1982 عندما اجتاحت إسرائيل لبنان والانعطافة الكبري التي أحدثها في العقل الغربي. فقد دأب الغرب علي النظر إلي إسرائيل قبل الاجتياح علي أنها الدولة الضحية التي يحيط بها الأعداء من كل جانب ويسعون إلي إلقائها في البحر. لكن سرعان ما انقلبت تلك الصورة رأساً علي عقب عندما دخلت القوات الإسرائيلية إلي بيروت وعاثت فساداً في لبنان، لتتحول إلي دولة معتدية مدججة بالسلاح وتهدد بزعزعة استقرار المنطقة برمتها. وإذا كانت الاعتداءات الإسرائيلية علي الفلسطينيين في غزة تمر دون إثارة ضجيج إعلامي كبير في الغرب، بسبب الصور التي باتت مألوفة للقمع الإسرائيلي للفلسطينيين، فإن ما يتعرض له لبنان، البلد المستقل والديمقراطي، من عدوان يومي يستهدف تدمير الجسور والطرقات، لن يمر دون ثمن أخلاقي باهظ علي إسرائيل أن تقتطعه من صورتها المتدهورة أصلا لدي الرأي العام الدولي. وساهمت وسائل الإعلام التي تبث الصور المرعبة للمدنيين ينتشلون من تحت الأنقاض، وصور أشلاء الأطفال في التأثير علي الرأي العام وتغيير قناعاته إزاء إسرائيل. وفي فضاء معولم تلعب فيه الصورة دوراً حاسماً في الحروب، إلي جانب المدافع والطائرات، لا شك أن صورة إسرائيل تلقت ضربة أخري تضاف إلي سجلها الحافل بالعنف ضد المدنيين. وكلما تمادت إسرائيل في استعمال قوتها العسكرية الناتجة عن شعورها بالتفوق الإقليمي كلما أضرت بصورتها العالمية وخسرت المعركة الإعلامية.