قررت أن أعطي نفسي إجازة من عذاب المتابعة المتواصلة، ثانية بثانية، لوقائع العدوان الإسرائيلي الغاشم علي لبنان، أو بالأحري "العدوان الثلاثي" الثاني الذي تشنه إسرائيل علي دولة عربية شقيقة بالدعم السياسي والعسكري الأمريكي المباشر وتواطؤ النظام العربي الرسمي. لكني لم أذهب في هذه الإجازة العارضة إلي الساحل الشمالي، حيث الماء والخضرة والوجه الحسن، وإنما شددت الرحال في ذروة قيظ أغسطس إلي أسيوط عاصمة صعيد مصر التي يبلغ متوسط درجة الحرارة فيها هذه الأيام 44 درجة مئوية بأرقام هيئة الأرصاد الرسمية التي لا تختلف كثيرا عن أرقام وبيانات وتصريحات النظام العربي الرسمي المضللة. أما لماذا أسيوط بالذات في هذا التوقيت غير الملائم، سواء بمعايير مناخ السياسة أو مناخ الطبيعة، فلأنني كنت قد تلقيت دعوة قبل نشوب الحرب الأخيرة لحضور اجتماع تحضيري لمؤتمر عن الحرف التقليدية، ووعدت الفنان التشكيلي الكبير عز الدين نجيب بأنني سألبي هذه الدعوة التي تتعلق باحدي القضايا التي كرس لها سنوات مديدة من عمره وطاقته الإبداعية. ولم يكن الحرج من عز الدين نجيب هو السبب الوحيد لعدم الاعتذار عن الحضور، بل كانت هناك أسباب أخري، منها اهتمامي بهذا التراث الحي المهدد بالانقراض رغم أهميته الاقتصادية والاجتماعية والفنية ناهيك عن أن الحفاظ عليه مرتبط أيضا، واساسا، بالحفاظ علي الهوية الوطنية في مواجهة تحديات العولمة، ومنها أيضا حاجتي النفسية لأخذ إجازة من توتر الانغماس في التفاصيل المروعة لاكثر من 27 يوما من حرب ضروس تجاوزت فيها إسرائيل كل الخطوط الحمراء والأعراف والقواعد القانونية والأخلاقية والإنسانية. وصلت إلي أسيوط الساعة الواحدة، أي في عز الظهر وذروة الحر الذي يصهر الحديد، ومن المحطة أخذوني الي الاجتماع مباشرة. أدار النقاش الفنان التشكيلي الاسيوطي سعد زغلول - وهو أيضا صاحب تجربة متميزة في إنقاذ إحدي الحرف التقليدية من الانقراض هي فن التللي - وشارك فيه من القاهرة عز الدين نجيب رئيس جمعية أصالة لحماية الحرف التقليدية والدكتور حمدي عبد الله عميد كلية التربية الفنية بالزمالك الأسبق ورئيس قطاع الفنون التشكيلية بالهيئة العامة لقصور الثقافة، ومن أسيوط محمد جلال فارس المدير الإقليمي للصندوق الاجتماعي للتنمية بأسيوط، وعبد الله عبد الحميد مدير مركز تنمية الأعمال بالوجه القبلي (مركز تحديث الصناعة)، وعلي حمزة عبد الكريم نائب رئيس جمعية المستثمرين بأسيوط، ومختار عيد عبد العزيز أمين عام جمعية المستثمرين، وحمدي عبد اللطيف مدير عام الثقافة باسيوط. لم أندهش فقط من "تعددية" و"تكاملية" الحاضرين الذين يمثلون الجهات المعنية بالموضوع :حكومة وقطاعا خاصا، صناعة وثقافة، تمويلا وادارة ، تراثا وتحديثا.. بل اندهشت أكثر من جدول الأعمال الذي جاء فيه بالنص: 1- إنشاء مركز لأبحاث وتطوير الحرف التقليدية. 2- إقامة آلية مشروعات صغيرة للحرف التقليدية. 3- إقامة مدينة حرفية تضم تلك المشروعات. 4- إقامة معرض دائم للمنتجات التقليدية. 5- إقامة سمبوزيوم الحرف التقليدية "دوليا"! 6- آلية للتنسيق بين جميع الأطراف. 7- إقامة معرض بقصر الثقافة مصاحب للمؤتمر. قلت بيني وبين نفسي .. هؤلاء الصعايدة الطيبون لا يعرفون جبروت البيروقراطية القادرة علي ايقاف المراكب السايرة وتحويل الأحلام الوردية إلي كوابيس مزعجة! لكن دهشتي الكبري كانت في لقائنا - الذي أعقب هذا الاجتماع التحضيري مع محافظ أسيوط اللواء نبيل العزبي. معلوماتي عن "العزبي" أن كل تاريخه السابق قبل تبوئه منصب المحافظ كان في سلك البوليس، وأن آخر منصب شغله قبل ان يصبح محافظا كان منصب مدير أمن القاهرة، وكانت إحدي واجباته التعامل الأمني بشتي الصور مع مظاهرات الأحزاب وحركة كفاية وغيرها. لكني وجدت نبيل العزبي المحافظ شخصا مختلفا تماما .. يتحدث عن التنمية بحماس ويعتبرها التحدي الأول، وأن الإخفاق في تحقيقها بالصورة الواجبة هو السبب الأول للتطرف والإرهاب والجريمة المنظمة والعشوائية علي حد سواء. ويعترف بان أسيوط محافظة فقيرة، وتقف حاليا في الذيل، حيث تحتل الترتيب الرابع والعشرين علي قائمة محافظات مصر. ويدرك أن هذا الفقر الاقتصادي لمحافظته يتناقض مع تاريخها الحضاري. ومن الفجوة الهائلة بين بؤس الاقتصاد وثراء التاريخ يدخل نبيل العزبي الي موضوع الحرف التقليدية بعين بصيرة ووعي مدهش وحماس فوق العادة. ووعد بكلمات بالغة الوضوح بأنه سيدعم مبادرة تحويل أسيوط إلي مركز "عالمي" للحفاظ علي التراث الحي وإحياء الحرف التقليدية التي كان لهذه المحافظة المظلومة تاريخا ذهبيا في إبداعها وازدهارها في عهود غابرة.. يجب أن تعود محملة بعبق التاريخ وموصولة مع مستجدات عصر ثورة المعلومات وقادرة علي مواجهة تحديات وعواصف وأعاصير العولمة. ولم يكتف نبيل العزبي بإطلاق الوعود، بل "قرر" علي الفور تخصيص قطعة أرض مساحتها ثمانية أفدنة علي طريق درنكه، في حضن الجبل، كي تقام عليها مدينة للحرف التقليدية. ومع أنني لست من هواة كيل المديح للمحافظين والوزراء فقد وجدت نفسي أحيي هذا المحافظ، خاصة وأنني كنت أعتقد أن أفضل خبراته لا تتجاوز مطاردة المتظاهرين، والنظر الي كل الأمور من منظار الأمن، فاذا به يفاجئنا بنظرة مغايرة خلاصتها أن "التنمية هي الحل"، حتي لمشاكل الأمن، وان التنمية في محافظة فقيرة مثل اسيوط تحتاج إلي مداخل غير تقليدية، في مقدمتها إحياء الحرف التقليدية، وتحويل هذه المحافظة "الطاردة" لسكانها وأهلها إلي نقطة "جاذبة" لكل محبي الفنون والحرف التقليدية في سائر أنحاء العالم، بما يعنيه ذلك أيضا من تحويل مدينة كانت حتي الأمس القريب مصنعا للإرهابيين ومفرخة للتطرف ومزرعة للتعصب والتزمت إلي منارة إشعاع حضاري عالمية. وطالما أن محافظ أسيوط وجد في استثمار التاريخ، باعتباره الكتاب الذي تركت الفنون والحرف التقليدية بصماتها علي بعض صفحاته القديمة، حلا غير تقليدي لمشاكل وتحديات التنمية في هذه المنطقة الفقيرة.. فإنني اقترحت عليه استثمارا ثانيا في التاريخ، هو تسليط الأضواء علي تلك البقاع من محافظة أسيوط التي أقام فيها السيد المسيح أثناء رحلة هرب الأسرة المقدسة الي مصر، من أجل جذب الاستثمارات السياحية اللازمة لاقامة المرافق والخدمات وشتي مستلزمات البنية التحتية، والفوقية، اللازمة لتحويل هذه المنطقة المحرومة إلي مزار عالمي لملايين المسيحيين من شتي أنحاء العالم يتسابقون للحج إليه، خاصة وأن السائح الذي يرغب في زيارة هذه المناطق التي لجأت إليها العائلة المقدسة سيجد عوامل إضافية مشجعة، من بينها قرب مقاصد مهمة للسياحة الثقافية في الأقصر المتاخمة وغيرها الكثير من مواقع الآثار المصرية القديمة. كما اقترحت عليه الاستثمار في "المستقبل"، بالإضافة إلي الاستثمار في "التاريخ"، من خلال طرح برنامج متكامل لجعل أسيوط وادي سيلكون مصري، علي غرار "بنجالور" الهندية التي أصبحت قلعة لصناعة البرمجيات تصدر للعالم بمليارات الدولارات، بعد أن كانت في الأصل بلدة فقيرة، أشد بؤسا من أسيوط، ويقوم أبناؤها اليوم بإبداع البرمجيات تحت بير السلم!! كانت الساعة تقترب من الثانية صباحا، موعد القطار الذي سيقلني الي القاهرة بعد 13 ساعة اجازة من عذاب متابعة وقائع العدوان الإسرائيلي علي لبنان وفلسطين، وأخذني الفنان سعد زغلول بالسيارة في جولة خاطفة بالمدينة - برفقة عز الدين نجيب وحمدي عبد الله .. ولاحظت المجهودات المحمومة المبذولة لاعادة النظافة ولمسة الجمال لهذه المدينة التي لطخ الإرهابيون شوارعها منذ سنوات معدودات بدماء الأبرياء، وغطوا البلاد والعباد بسواد التزمت والتعصب والكراهية. ووضعت يدي علي قلبي عندما سمعت أثناء عودتي الي محطة القطار ان الدكتور أيمن الظواهري، الذي ترك مهنة الطب وتخلي عن وظيفته ملاك الرحمة ليتقمص دور ملاك الموت وقابض الأرواح، وقد أعلن أن بعض زعماء تنظيم الجهاد المصري قد انضموا إلي تنظيم "القاعدة". إذن.. شبح الإرهاب يخيم علي رؤوسنا من جديد.. وبقوة. ونرجو ألا نكون مضطرين للعودة إلي المربع رقم واحد والتذكير بأنه ليس بالأسلوب الأمني فقط، أو باستنزال اللعنات علي هذا السرطان فحسب.. يمكن التصدي لهذه الموجة الجديدة المتوقعة من الارهاب.. وإنما سيكون ذلك ممكنا بسياسات حكيمة وجادة.. من بينها مبادرة تحويل أسيوط الي مركز إشعاع عالمي للحفاظ علي الفنون والحرف التقليدية ، جنبا الي جنب مع مبادرات التسلح بثقافة التنوير والتسامح وتعزيز الوحدة الوطنية حتي لا تسقط عاصمة الصعيد مرة أخري في قبضة الظلاميين.