جاءت استجابة الرئيس الأمريكي جورج بوش ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس للتصاعد الحالي في زعزعة الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، إدانة صارخة لطرف واحد فحسب من أطرافها هو "حزب الله". كما صحبت دعوتهما للسيطرة علي هذه الأوضاع، اتهامات وجهت ل "حزب الله" بوصفه واجهة لكل من سوريا وإيران. ومن جانبها قالت رايس إنه لا شيء يمكن التفاهم حوله مع هاتين "الدولتين المارقتين". غير أن ما نود قوله هنا، هو فداحة خطأ هذا الموقف الأمريكي. فاتهام "حزب الله" باختطافه للجنود الإسرائيليين بأوامر صادرة من سوريا وإيران، هو تبسيط ساذج ومخل لمجمل العلاقة الاستراتيجية التاريخية التي تجمع كلاً من "حزب الله" وسوريا وإيران. ورغم وجود إطار جيوبوليتيكي مشترك بين هذه الأطراف الثلاثة، فإن مما لا شك فيه أن "حزب الله" هو الذي يتخذ القرار منفرداً بشأن عملياته العسكرية التي ينفذها. بل لابد من القول إن استقلالية الحزب قد تعاظمت كثيراً إزاء أي نفوذ خارجي، منذ ذلك النصر العسكري الذي حققه في عام 2000، بإرغامه إسرائيل علي الانسحاب من جنوب لبنان. وقد تسببت آخر العمليات العسكرية التي نفذها "حزب الله" مسفرة عن مصرع ثمانية وأسر اثنين من الجنود الإسرائيليين في إثارة حرج بالغ لدي الأوساط العسكرية الإسرائيلية. فتلك العملية فاجأت القيادة الإيرانية نفسها التي كثيراً ما طغي خطابها السياسي المعادي لتل أبيب، علي تعكر مياه العلاقات بينها وبين "حزب الله". وإذا ما توخينا الحقيقة والصدق في النظر إلي النجاح الإيراني في لبنان، فلا بد من الاعتراف بأنه يعود إلي النزعة العملية البراجماتية التي ميزت سياسات وأداء طهران، وليست الآيديولوجيا بأية حال. وفي الوقت الذي شاعت فيه مشاعر الغبطة والسرور في أوساط المؤيدين ل"حزب الله"، بسبب عمليته العسكرية الأخيرة ضد إسرائيل، فإن كثيراً من اللبنانيين أبدوا مشاعر غضب واستياء من تلك العملية، قائلين انها وفرت ذريعة لإسرائيل كي تقترف ما تقترفه من قتل ودمار ضد بلادهم. وبالنتيجة فإن طهران تبدي قلقاً عظيماً هذين اليومين، إزاء الخطر الماحق الذي بات يهدد مصير جهودها في بناء علاقات وطيدة مع أحزاب وقوي سياسية في لبنان. ولا غرو في أن يكون "حزب الله"، أفضل مثال علي نجاح تلك السياسات الخارجية الإيرانية. ففي غضون 20 عاماً من العمل، تمكن "حزب الله" من إقامة بنية تحتية متكاملة من المستشفيات ومنظمات العمل الخيري والمؤسسات الإعلامية، ومجموعة من شركات التشييد والبناء. وقد أثمرت هذه الجهود نجاحاً ملموساً حققه الحزب كحركة سياسية لبنانية، فضلاً عن كونه أفضل تجسيد لاتساع رقعة النفوذ الإيراني إلي الجماعات الشيعية العربية الإقليمية المجاورة. ومنذ النصر الذي حققه حسن نصر الله، الأمين العام ل "حزب الله" في عام 2000 ضد إسرائيل، ظل يحظي هذا القائد الشيعي بمكانة خاصة في العالم العربي، وهي مكانة لم تتأت إلا من إرغامه للاحتلال الإسرائيلي علي الانسحاب أمام المقاومة التي قادها ضده. وفوق هذا فهو خطيب سياسي مفوه ويتمتع بذهنية تحليلية وقّادة، فضلاً عن وفائه بالوعود التي يقطعها علي نفسه وحزبه. ولهذه الاعتبارات مجتمعة، فربما نظر من جانبه إلي تلك العملية التي نفذها حزبه في ال12 من يوليو الجاري، علي أنها أفضل وسيلة لمساندة الفلسطينيين من جانب، ولتعزيز دور ونفوذ حزبه نفسه كمثال لفاعلية المقاومة المسلحة ضد إسرائيل، من جانب آخر. بيد أن بعض ردود الفعل العربية الغاضبة، الصادرة من مصر والأردن والمملكة العربية السعودية، تشير إلي رعونة تلك العملية ومجافاتها للحكمة والحنكة السياسية. والنتيجة من وجهة نظر أولئك العرب أن العملية التي شنها "حزب الله" أعطت إسرائيل ذريعة مناسبة لشن حرب طالما خططت ودبرت لها. وفيما لو نجحت الجهود الإسرائيلية الجارية الآن في قص أجنحة "حزب الله" وكسر شوكته العسكرية، فإن الجانب الأكثر أهمية لهذه الحرب، هو تمهيد التربة والأجواء لتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران. وفي حال تمكنت إسرائيل من الحد من قدرة "حزب الله" علي مهاجمتها بالصواريخ، فإن ذلك سيسهل عليها مهمة توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية في مرحلة لاحقة. وهل من داع لتأكيد حقيقة انشغال إيران بالتفكير المستمر في توجيه ضربة كهذه لعدة سنوات خلت؟ ومن البديهي أنه في حال أخفقت الجهود الأمريكية في إطار ما يسمي مجموعة "الخمسة + واحد" في لجم جماح الطموح النووي لإيران ووقف أنشطتها الخاصة بتخصيب اليورانيوم، فإنه يرجح أن تبادر إسرائيل باتخاذ خطوة ما ضد إيران. والذي تسعي تل أبيب إلي تحقيقه خلال حربها الدائرة حالياً علي لبنان، هو تحويل جنوبه إلي ساحة قتل مفرغة من السكان، بحيث يتسني لها الانقضاض علي حزب الله ومليشياته العسكرية. لذلك ليس مستغرباً أن نري هجرة الآلاف من سكان الجنوب، وهم مرغمون علي الفرار من بيوتهم وديارهم أمام شراسة القصف الجوي الإسرائيلي وكثافته. علي أن عدة أسئلة تبقي عالقة بانتظار الإجابة: منها كم من الوقت يلزم تل أبيب لتحقيق أهدافها هذه؟ وما هي الانعكاسات المحتملة لذلك علي الوضع الأمني في المنطقة بأسرها؟