إن التطور الذي وصلت إليه القضية المعروفة في فرنسا ب "قضية كليرستريم" والتي تتعلق بالأجواء المشحونة بين رئيس الوزراء "دومينيك دو فيلبان" ومنافسه "نيكولا ساركوزي" وتحدث في أحد الفصول الأخيرة من عهد "جاك شيراك"، يستدعي إلي الأذهان تعليق "بسمارك" علي ما عرف وقتها باسم "قضية شليزفيج هولستين" في ألمانيا القرن التاسع عشر، والتي قال عنها إن هناك ثلاثة أشخاص كانوا يفهمونها في ألمانيا كلها: مات الأول منهم، وفقد الثاني عقله، أما الثالث فهو شخصياً، ولكن المشكلة هي أنه قد نسي ما هي تلك القضية من الأساس. ومسألة "كليرستريم" هذه عبارة عن مؤامرة ميكافيللية مصغرة حيكت لتدمير شخص ما يفترض أنه ساركوزي ولكنها فشلت. ومرتكب تلك المؤامرة كان يجب أن يستفيد بنموذج وزير خارجية فرنسي سابق، نشر تواً كتاباً جيداً عن ميكافيللي وهو رئيس الوزراء الأسبق "إدوارد بالادور" الذي كان قد تولي منصبه خلال فترة "التعايش المشترك" بين اليسار واليمين. وفي كتابه يقول "بالادور" إنه علي الرغم من السمعة السيئة التي لحقت بميكافيللي بسبب النصائح التي قدمها لأميره، إلا أنه رجل تنبع أهميته من أنه كان أول من رأي أن السياسة مسألة تتعلق بالسعي إلي السلطة الشخصية أكثر من تعلقها بتحقيق المصلحة العامة. يذكر أن "مسألة كليرستريم" قد برزت عقب شهرين من المظاهرات التي خرجت بسبب سوء إدارة "دوفيلبان" لتعديل بسيط متعلق بقانون التشغيل الفرنسي. وقد أدت هذه المظاهرات إلي إضعاف موقف الرئيس شيراك وسلطته السياسية وإلي تقوية وضع المعارضة اليسارية وإدراكها أنه بمقدورها كسب السلطة مجدداً في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة. حتي وقت قريب كان هناك من الأسباب ما يدعو للشك في ذلك، علي أساس أن اليمين لديه شخصيتان سياسيتان هما ساركوزي ودوفيلبان، تتمتعان بشعبية ولكن لكل منهما أجندة مختلفة. فساركوزي المعروف بجرأته التي تصل إلي حد الوقاحة، وعدوانيته، حث الشعب الفرنسي علي الاستفادة من تجارب الدول الأخري (وخصوصاً من تجربة رأسمالية السوق في أمريكا وبريطانيا) والانفصال عن فكرة النموذج الاشتراكي الأوروبي. أما "دوفيلبان" فهو رجل يتمتع باللباقة والفصاحة والأستقراطية، ويعتبر من الوافدين الجدد علي المناورات الانتخابية، ويقدم أجندة إصلاحية تختلف عن أجندة ساركوزي "الانشقاقية". و"دوفيلبان" رجل له سجل في تقديم النصائح السيئة. فهو الذي نصح شيراك بحل البرلمان الفرنسي قبل الأوان في عام 1997 كي يعزز الدعم الذي يتمتع به الرئيس، ولكن الذي حدث بدلاً من ذلك هو أن شيراك فقد سيطرته علي البرلمان. و"دوفيلبان" هو أيضاً الذي نصح شيراك بعقد استفتاء من أجل التصديق علي اتفاقية الاتحاد الأوروبي عام 2005 بدلاً من أخذ الأصوات عليها في البرلمان، وهو ما أدي إلي رفض الشعب الفرنسي التصديق عليها. والشيء الذي خفف من الشماتة التي شعر بها الاشتراكيون تجاه تلك الأحداث هو الخلافات الداخلية السائدة في حزبهم. فهناك تقريباً نصف "درزن" من الساسة "الفيلة" العاديين للغاية، والفاقدين للكاريزما الشخصية، يتنافسون علي الترشيح في الانتخابات الرئاسية القادمة باسم الحزب الاشتراكي. بخلاف هؤلاء الساسة، ليس هناك سوي امرأة فاتنة وعاقلة ومتمردة في اعتدال، وهي في نفس الوقت رفيقة لواحد من هؤلاء "الفيلة"، كان قد تم توجيه سؤال إليها في مقابلة تلفزيونية أجريت معها أخيراً هو: ما المانع في أن تقومي بترشيح نفسك لمنصب الرئاسة؟ وكانت إجابتها: صحيح.. ما الذي يمنع ذلك؟ ليس هناك شك في أنني أول صحفي أمريكي أكتب عن السياسية الفرنسية "سيجولين رويال" (حتي هذه اللحظة علي الأقل)، وسأضيف ابتداءً أنها امرأة تعيش حياة متحررة وهو أمر لا يمكن قبوله من ساستنا. ومما يؤسف له أن "المدام رويال" وكل امرأة فرنسية في سن معينة (سنها الآن 52) يطلق عليها لقب "مدام" تعيش تحت سقف واحد مع "فرانسوا هولاند" سكرتير الحزب الاشتراكي الفرنسي الحالي منذ أن كانا طالبين في "المدرسة الوطنية للإدارة" الشهيرة جداً في فرنسا.