ليس مرجحاً أن تتوصل لجنة بيكر الثنائية الحزبية، التي جري تفويضها مؤخراً من قبل الكونجرس بالنظر في بدائل الحلول الممكنة للسياسات الأمريكية في العراق، إلي أي من تلك الحلول في ظل غيابها التام، في سياق ما هو مقبول ورائج سياسياً الآن في واشنطن. فمن جانب تود الإدارة سحب قواتها بأسرع وقت ممكن من العراق. إلا أنها وبموافقة القيادات الديمقراطية، ترغب من الجانب الآخر في البقاء واستكمال المهمة التي بدأتها هناك. ولكن ما من سبيل للجمع بين هاتين الرغبتين مطلقاً. ومما لاشك فيه أن اللجنة ستوصي بتوسيع إطار التحالف الدولي، بحيث يتم اجتذاب المزيد من الدول الأوروبية والإسلامية، إلي جانب التوصية بتسريع انتقال المهام العسكرية والأمنية إلي يد القوات العراقية. لكن وحتي في حال إمكان تنفيذ هذه الخطط، فإن ذلك لن يفعل شيئاً سوي التحايل علي الكارثة وإخفاء ملامحها. ولذلك فإن في اعتقادي الشخصي أن أفضل ما تستطيع فعله هذه اللجنة وهو في مستطاعها فعلاً أن توضح لعامة المواطنين الأمريكيين لماذا الوجود الأمريكي في العراق؟ وستكون هذه اللجنة قد أدت مهمة جليلة فيما لو بينت حقائق تلك الحرب ودوافعها. فالشاهد هو أنه لا وجود حتي الآن إلا للأكاذيب والتلفيقات المحضة حول الحرب. ولست أتحدث هنا عما قيل عن أسلحة دمار شامل عراقية، إنما أعني بقية الأكاذيب كلها: أي تلك المتعلقة بأسباب غزو أمريكا للعراق، وما الذي تريده واشنطن من ذلك الغزو، وما هي حقيقة الموقف العسكري الراهن، وما هي الخيارات الواقعية العسكرية المتوفرة الآن؟ وفيما لو نجحت اللجنة المشار إليها في توضيح الحقائق وجلائها في كل ما يتصل بالأسئلة أعلاه، فإنها ستكون قد أنجزت واجباً علي درجة كبيرة من الوطنية والأهمية لأمريكا. وفي وسع جيمس بيكر ورفاقه في هذه اللجنة من بينهم الديمقراطي المخضرم لي هاملتون، مدير مركز "وودرو ويلسون"، وساندرا داي أوكونور القاضية السابقة بالمحكمة العليا، وفيرنون جوردان، ورودي جولياني محاولة رد الاعتبار لأهمية الحقيقة في نظام الحكم الديمقراطي الأمريكي. أما الفارق بين العراق وفيتنام فيتمثل فيما أحاط بغزو أولاهما من أكاذيب وخدع، علي الرغم من أن التجربة الفيتنامية تظل هي الأسوأ بلا منازع. وكان الرئيس الأسبق ليندون جونسون قد أعرب عن مخاوفه العميقة في تلك الفترة من عقد الستينيات إزاء توسيع نطاق التدخل الأمريكي في فيتنام. غير أنه أرغم علي ذلك جراء الضغوط المكثفة التي مارسها عليه "الجمهوريون"، وخاصة من قبل مسئولي السياسات الخارجية الذين كان قد ورثهم من إدارة سلفه الرئيس جون كنيدي، إثر مصرعه. وقد كان هؤلاء جميعاً علي يقين لا يتزعزع بضرورة خوض تلك الحرب. ومن الناحيتين الفكرية والعمرية، فقد كانوا جميعاً من سليلي أولئك القادة الغربيين الذين عمدوا إلي استرضاء القائد النازي هتلر، اتقاءً لشره. أما خبرتهم العملية فقد تشكلت من خلال شن الحروب علي النظم الديكتاتورية الشمولية. ولذلك فقد كانوا علي أشد قناعة بأن التاريخ سيعيد نفسه مرة أخري في فيتنام. وعلي رغم ذلك فقد عبر الرئيس الأسبق "ليندون جونسون" بصدق ووضوح عن مشاعره الخاصة إزاء تلك الحرب بقوله "ليس بوسعي أن أهرب أو أختبئ، كما أنه ليس في مقدوري وقفها". وفي مارس من عام 1968 أعلن عن عدم رغبته في الترشح لدورة رئاسية ثانية. وبالمقارنة فقد كان أولئك المسئولون عن شن الغزو علي العراق صادقين وجادين أيضاً، إلا أنهم كذبوا للآخرين فيما يتصل بدوافعهم الحقيقية التي قادتهم إلي الحرب والاحتلال. والشاهد أن الجمهور الأمريكي لا يزال يجهل السبب الذي جعل من غزو بلاده للعراق ضرورة لابد منها. وكما نعلم اليوم، فإن الزعم بحصول العراق علي أسلحة الدمار الشامل وكونه مهدداً أمنياً مباشراً للولايات المتحدة وحلفائها، لم يعد لهما ما يسند صدقيتهما علي أرض الواقع والحقائق الملموسة. وفي سبيل تمرير هذه الحجة الملفقة، فقد تعمد البيت الأبيض قمع أي تقرير استخباراتي آخر يتناقض وما أعلن عن حصول العراق علي أسلحة الدمار الشامل. ومن يومها وإلي الآن، فقد ظلت كل الفضائح الأخلاقية المحيطة بهذه العملية تدور حول تلك الأكذوبة المجلجلة. ولكن لا يزال السؤال قائماً حول أسباب عزم الإدارة الحالية منذ تسلمها منصبها، علي غزو العراق وتدمير نظام صدام حسين. فهذا هو ما يجهله الجمهور الأمريكي حتي الآن. فهل ثمة سبب أو تفسير واحد لذلك العزم؟ مما لاشك فيه أن لكتلة "المحافظين الجدد" في واشنطن ذات الصلة بحزب "الليكود" الإسرائيلي، مشروعاً خفياً لإقامة دولة للهيمنة الإسرائيلية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط. ثم هناك مسئولون من أمثال بول وولفوفيتز وهو من أكثر المروجين والمتحمسين لفكرة الغزو ممن زعموا أن العراق يعوم في بركة من النفط وأن احتلاله سيتكفل بسداد فاتورته بنفسه، فضلاً عن مساهمة الاحتلال في نشر قيم الديمقراطية والحرية في المنطقة. ولا غرو أن رأي نائب الرئيس ديك تشيني، المعروف بكونه أفضل وأقرب أصدقاء شركات النفط وشركة هاليبرتون علي وجه الخصوص، فرصاً استثمارية عملاقة في امتلاك بلاده للعراق! وكذبة الأكاذيب هي بالطبع أن الغزو سيكون مما يسر العراقيين ويغبطهم. فهل تكشف لجنة بيكر كل هذه الحقائق؟