يوري أفنيري، الكاتب الصحفي الإسرائيلي، وعضو الكنيست السابق، كان من المستوطنين الصهاينة الذين أدركوا منذ البداية استحالة تحقيق المشروع أو الحلم الصهيوني. ولذا كان ينشر منذ الخمسينيات مجلة هاعولام هزه (هذا العالم) والتي تخصصت في توجيه النقد للسياسات الصهيونية. وكان أفنيري يحذر الصهاينة من مصير ممالك الفرنجة التي لم يبق منها سوي بعض الخرائب. وقد صدر له كتاب بعنوان "إسرائيل بدون صهيونية" (1968) عقد فيه مقارنة مستفيضة بين ممالك الفرنجة والدولة الصهيونية. فإسرائيل مثل ممالك الفرنجة مُحاصَرة عسكرياً لأنها تجاهلت الوجود الفلسطيني ورفضت الاعتراف بأن أرض الميعاد يقطنها العرب منذ مئات السنين. ثم عاد أفنيري إلي الموضوع، عام 1983، بعد الغزو الصهيوني للبنان، في مقال نشر في هاعولام هزه بعنوان "ماذا ستكون النهاية؟" (ولنلاحظ أنه يتحدث عن نهاية إسرائيل، هذا الموضوع الذي لا يجرؤ عربي علي الاقتراب منه) فأشار إلي أن ممالك الفرنجة احتلت رقعة من الأرض أوسع من تلك التي احتلتها الدولة الصهيونية، وأن الفرنجة كانوا قادرين علي كل شيء إلا العيش في سلام، لأن الحلول الوسط والتعايش السلمي كانا غريبين علي التكوين الأساسي للحركة. وحينما كان جيل جديد يطالب بالسلام كانت مجهوداته تضيع سدي مع قدوم تيارات جديدة من المستوطنين، الأمر الذي يعني أن ممالك الفرنجة لم تفقد قط طابعها الاستيطاني. كما أن المؤسسة العسكرية الاقتصادية للفرنجة قامت بدور فعَّال في القضاء علي محاولات السلام، فاستمر التوسع الفرنجي علي مدي جيل أو جيلين. ثم بدأ الإرهاق يحل بهم، وزاد التوتر بين المسيحيين الفرنجة من جهة وأبناء الطوائف المسيحية الشرقية من جهة أخري، الأمر الذي أضعف مجتمع الفرنجة الاستيطاني، كما ضعف الدعم المالي والسكاني من الغرب. وفي الوقت نفسه، بدأ بعث إسلامي جديد، وبدأت الحركة للإجهاز علي ممالك الفرنجة، فأوجد المسلمون طرقاً تجارية بديلة عن تلك التي استولي عليها الفرنجة. وبعد موت الأجيال الأولي من أعضاء النخبة في الممالك، حل محلهم ورثة ضعفاء في وقت ظهرت فيه سلسلة من القادة المسلمين العظماء ابتداءً من صلاح الدين ذي الشخصية الأسطورية حتي الظاهر بيبرس. وظل ميزان القوي يميل لغير صالح الفرنجة، ولذا لم يكن هناك ما يوقف هزيمتهم ونهايتهم ونهاية الممالك الصليبية! وحينما اندلعت انتفاضة عام 1987 كتب أفنيري مقالاً بعنوان: "الضربة القاضية" يبين فيه أنه علي الرغم من أن القوات الإسرائيلية تقوم بالبطش بالفلسطينيين، إلا أن استمرار الانتفاضة هو في حد ذاته دليل علي انتصار الفلسطينيين وعلي عجز القوات الإسرائيلية عن أن تخمدها، ولذا كان لابد من الالتفاف حولها من خلال توقيع اتفاقية أوسلو وما تبعها من اتفاقيات سلام. ويعد أفنيري من أهم الكتاب الصحفيين الإسرائيليين الذين يرصدون الواقع الإسرائيلي دون أن تغشي عيونهم أية غشاوات صهيونية. وفي مقال له كتبه مؤخراً بعنوان "الغائب الأكبر" (المشهد الإسرائيلي 21/3/2006) يعود أفنيري لنفس الموضوعات ويبين أن كلمة "سلام" أصبحت كلمة منبوذة في المعجم الصهيوني، إلي درجة أنه لا يمكن لأي سياسي في إسرائيل استخدامها. وللبرهنة علي رأيه يستعرض أفنيري موقف الأحزاب الإسرائيلية، الواحد تلو الآخر، من قضية السلام. فيشير إلي حزب "كاديما" الذي يتحدث "عن الأمل، الأمل، الأمل، دون أن يشرح عن أي أمل يتحدث"، والذي "يتحدث عن "القوة" وعن "احتمال اتخاذ خطوة سياسية. السلام يوك"، أي لا حديث عن السلام. أما حزب الليكود فمن الواضح أنه لا يتحدث عن السلام قط، فأكثر ما يعرفه بنيامين نتنياهو هو بث الرعب في قلوب الجميع: "ولذا فهو يخرج من مخزن السلع البالية بعض الجنرالات المستعملة، الذين يشهدون علي أن حماس والسلطة الفلسطينية هما تهديد استراتيجي علي وجود إسرائيل". وقد أضاف لكل هذا الآن قنبلة إيران المخفية (التي لم تصنع بعد!)