إن التهديدات شديدة الشطط لاتمثل ظاهرة جديدة في الشرق الأوسط، فهناك ميراث عريض من التهديدات التي تحولت إلي أقوال مأثورة يتم التندر بها مرارا ويتم تذكرها بأسي مرارا أخري، والسبب في الحالتين أنها كانت استعراضات قوة جوفاء، أسفرت في النهاية عن حالات شديدة الانفعال لدي الرأي العام داخل الدول، علي نحو أدي بالقادة إلي أن يجدوا أنفسهم في معضلات حقيقية فلاهم قادرون علي التراجع عنها وإلا سيجدوا أنفسهم في مواقف صعبة أمام شعوبهم، ولاهم قادرون علي تنفيذها وإلا سيجدوا أنفسهم يقفزون في الفراغ، وكانت النتيجة في كثير من الأحيان هي بدء مسيرة الصعود إلي الهاوية، ولاداعي للأمثلة فهي كثيرة ومعروفة، وكان من المتصور أن القادة قد تعلموا "أصول التهديدات"، لكن مايحدث في الوقت الحالي في الخليج يشير إلي أن التاريخ يعيد نفسه بلاملل. إن أزمة البرنامج النووي الإيراني قد شهدت خلال الأيام الماضية مثل تلك الحالة بشكل مفزع، ففي طهران من يهددون بقطع يد من يمس بلدهم بأذي، وبإشعال النيران في المنطقة كلها، واستهداف المصالح الأمريكية في العالم، وفي واشنطن هناك من يهدد بهدوء شديد باحتمالات استخدام أسلحة نووية متطورة إذا ماوصلت الأزمة مع إيران إلي طريق مسدود في النهاية، وقد يبدو أن كل ذلك هو جزء من قواعد اللعبة الخاصة بإدارة الصراعات عندما تقترب من لحظات فارقة، لكن المشكلة أن من يفعلون ذلك هم أطراف يمينية محافظة علي الجانبين، ربما لايستعرضون القوة، وإنما يعنون مايقولونه، والمشكلة الأهم هي أن تلك الأزمة قد تصل بالفعل _ وفقا لأحد سيناريوهاتها إلي طريق مسدود، وبالتالي لن يجد طرف أمامه إلا أن يقترب نسبيا مما كان يقول أنه سيفعله، وإلا سيعتبر في حكم المهزوم، وكل منهما لايحتمل فكرة الهزيمة لسبب أساسي وهو أنها ستعني نهايته. لكن ثمة مجال (أو أمل) لافتراض أن الجميع عقلاء وأن "لعبة المجنون" التي يمارسها الطرفان ببراعة ليست سوي لعبة تخفي خلفها منطق شديد الاتساق، يقوم من الجانب الإيراني علي فكرة واحدة لم يتم إخفاؤها، وهي أن دول المنطقة ودول العالم ذات المصالح في المنطقة، تعتبر أن مصدر التهديد الأول المتضمن في تلك الأزمة ليس هو احتمالات امتلاك إيران لسلاح نووي، وإنما هو احتمالات نشوب حرب في المنطقة، وبالتالي فإنهم سيكونون مستعدين لتقبل أية احتمالات تتعلق بمصدر التهديد الثانوي في سبيل تجنب إمكانية تحقق التهديد الرئيسي، وبالتالي فإنه كلما تم الاندفاع نحو الحرب تصبح إمكانية التوصل إلي تسوية في صالح إيران محتملة أكثر، والآلية هنا هي أن تبدو إيران وكأنها متغطرسة أو انتحارية. علي الجانب الأمريكي ثمة مجال لافتراض أنه يتم التقاط الخيط إلي حد كبير، فهناك حالة من التصعيد الأمريكي التي تتمثل في الحديث المتكرر عن احتمالات وخطط استخدام القوة المسلحة بشكل ما ضد إيران يتضمن احتمالات نووية، لكن مايتم التفكير فيه عمليا هو شئ مختلف تماما، وهو أن يتم تشكيل وضع يؤدي إلي "دوران رأس" الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، الذي يوجد إدراك بأنه ليس اللاعب الوحيد في إيران، وانه عندما ستصل الأمور إلي حافة الهاوية سيظهر البرجماتيون في الواجهة، وسيكشر "البازار" عن أنيابه. وبالتالي فإن اسم اللعبة هو " حرق" السيد أحمدي نجاد، في حين يتم التفكير في شئ آخر تماما لايتيح له فرصة التقدم عمليا في اتجاه شن حرب، أو أن يجد في أي وقت سببا محددا لتفجيرها، فلن يتخذ ضد إيران إجراء عنيفا واضحا يمكنه أن يعتبره عدوانا، فالحرب المتصورة علي هذا الجانب "باردة" تماما. إن الطرفين يدركان أن كل الاحتمالات المطروحة في الوقت الحالي صعبة للغاية، فالحل السلمي للازمة يواجه مشكلة حقيقية، والحل العسكري يمكن أن يقود إلي كارثة، لكن كما أن أحدا لايحتمل أن تنشب حرب رابعة جديدة في الخليج، فإن أحدا لايحتمل أيضا أن تظهر قنبلة نووية أخري في المنطقة. لذا فإن المسار المحتمل للأمور _ بعيدا عن التهديدات الحربية هو التقدم بشكل تدريجي نحو فرض عقوبات من نوع ما ضد إيران، يتم التفاهم حاليا حولها في ظل تضارب مصالح واسعة النطاق بين الدول الكبري ذات العلاقة بالمشكلة، دون أن تصل الأمور عمليا إلي حافة الهاوية، ويدرك الجميع أن هذا الوضع لن ينهي الموقف، فقد أصبح مفهوما من واقع خبرات سابقة أن العقوبات لاتمثل حلا فعالا للأزمات، وأن طهران لن تظل ساكنة بلا حراك، وبالتالي ستظل الاحتمالات الصعبة مطروحة طوال الوقت، لكن كل طرف سوف يحاول أن يبقي عليها في نطاق حالة من "اللاسلم واللا حرب". إن الحرب مرة أخري ، خيار غير مطروح في المدي المباشر رغم التهديدات، وسوف يحاول كل طرف بكل طاقته أن لايتم الانزلاق إليها رغما عنه، فإيران تدرك نقاط قوتها ونقاط ضعفها جيدا، وليست الحرب ضمن نقاط قوتها غالبا، وآخر ماتريده الإدارة الأمريكية هو خوض حرب بينما لم يتم ترتيب الأوضاع في العراق، وبالتالي ستظل لعبة التهديدات قائمة، لكن في تلك الأثناء يلاحظ كل طرف سلوك الطرف الآخر وليس أقواله جيدا ليحاول استكشاف إلي أي مدي يوجد استعداد من جانبه لتنفيذ مايصرح به علنا، والمثير في الموضوع أنه لايوجد خطأ واحد حقيقي حتي الآن من جانب الطرفين، فلايزال كل منهما يحافظ علي سياسة فتح أحد الدروب للحل السلمي، بل وللاتصال المباشر، مع انضباط شديد في التحركات العسكرية علي نحو لايقود إلي خطوات في الاتجاه الخطأ، وينبئ هذا الوضع بموقف صراعي طويل المدي. لقد أدت الإشارات المتضمنة في هذا الوضع إلي نشاط غير عادي لكل النظريات التي تتحدث عن تفسيرات مختلفة لسلوك الطرفين الرئيسيين للأزمة الحالية، إيران والولايات المتحدة، فقد حققت واشنطنلطهران "خدمة كبري" بإزاحة نظام صدام حسين، وقدمت طهرانلواشنطن خدمة مقابلة، فمن يتعاملون يوميا مع السفير الأمريكي في العراق هم حلفاء إيران، وقد أدي ذلك إلي رواج مستوي من نظرية المؤامرة في الخليج العربي، وانفجرت بعض التصريحات الخليجية في وجه الطرفين أحيانا، لكن المسألة أعقد من ذلك بكثير، فكما أن هناك مستوي من التوافق المعلن، هناك مستوي من التناقض الحقيقي بينهما، والمشكلة حاليا هي كيف يمكن أن يتم تسوية كل ذلك أو التعايش لفترة مع المشكلات دون أن ينزلق الطرفان نحو ما لا يرغبان في حقيقة الأمر في الانزلاق إليه، ويبدو أن الحل القريب لتفسير كل ذلك هو تعبير "الحرب الباردة" التي ستمثل العنوان العريض لما ستشهده منطقة الخليج في الفترة القادمة.