ظل الداخل الإيراني لسنوات ليست بالقليلة يمثل قاعدة تأييد صلبة ومصدر مساندة قوي لنظام طهران فيما يتصل بسياسته ومواقفه بشأن البرنامج النووي للجمهورية الإسلامية . حيث استمد هذا النظام من تمسك الشعب الإيراني ببرنامج بلاده النووي وإصراره علي المضي قدما في إتمام دورة الوقود النووي بالرغم من الإعتراض الإمريكي والإسرائيلي وتحفظ دول الجوار وقلق المجتمع الدولي، بواعث ومحفزات لإبداء المزيد من التشدد والتعنت في مواجهة الضغوط الدولية التي ما برحت تنهال علي طهران بغير إنقطاع لتجميد مشروعها النووي الذي غدا حلما وطنيا ومشروعا قوميا تناسي الشعب الإيراني من أجل إنجازه معاناته وأزماته وعذاباته الداخلية ، وإلتف حول قيادات تغافل متعمدا أو كاد، عن أية تحفظات أو مآخذ علي أفكارها وسياساتها . غير أنه يبدو أن تمادي الرئيس نجاد في إستغلال هذا الأمر كمسوغ للإفتئات علي شعرة معاوية المتمثلة في ذلك القدر من المرونة الذي كان أسلافه الإصلاحيون يبدونه في تعاطيهم مع قضايا الداخل وملفات الخارج، لاسيما الملف النووي الإيراني، قد غدا يدق ناقوس الخطر بشأن شعبيته ومستقبله السياسي . حيث أفضت سياسات نجاد غير الحكيمة إلي سلسلة من التداعيات السلبية الخطيرة علي مستقبل الجمهورية الإسلامية، كان من شأنها أن تقود إلي إصطدام آمال الناخب الإيراني مجددا بحزمة من العقبات والتحديات الجسام التي تحول دون تنفيذ وعود إنتخابية طالما إنهالت عليه إبان الإنتخابات من قبل المرشح المحافظ أحمدي نجاد ، الذي إستغل عجزأسلافه من الإصلاحيين عن الوفاء بوعودهم الإنتخابية الجذابة كالقضاء علي البطالة والفقر ومحاربة الفساد بسبب محاصرة المؤسسات الفاعلة في النظام والتي يسيطر عليها المحافظون لهم، وطفق يمطر الشعب الإيراني الذي يرزح في أغلال البطالة والفقر والعوز الإقتصادي، بالوعود الحالمة والتطمينات التي مكنته من إنتزاع أصوات الناخبين بعد أن خاب رهانهم علي التيار الإصلاحي. غير أن السياسات التي تبناها نجاد بعد أن أصبح رئيسا للبلاد كانت تنحو بالجمهورية الإسلامية رويدا رويدا باتجاه المزيد من اليمينية المحافظة المغرقة في التطرف الفكري إلي حدالجمود الأيديولوجي والموغلة في التشدد السياسي حيال العالم الخارجي إلي حد الصدام علي نحو ما بدا جليا في تصريحات نجاد المعادية لإسرائيل ، ثم تشدده وتعنته الملحوظين فيما يتصل بالملف النووي الإيراني، وهوما كان له بالغ الأثر في إستفزازوإستعداء قوي دولية وإقليمية مؤثرة، ومن ثم دفع بإيران نحو مزيد من العزلة في ظل السعي الغربي الدءوب لفرض عقوبات إقتصادية وسياسية عليها ، الأمر الذي خلف أصداء سلبية علي الداخل الإيراني. فبالرغم من أن إرتفاع أسعار النفط خلال الأونة الأخيرة قد أسهم في إنعاش إقتصاد إيران نسبيا بعد أن حققت عائدات النفط الإيرانية نموا بلغ 32% بوصفها ثاني أكبرمصدر للنفط في العالم داخل مجموعة أوبك، وهو ما إنعكس بدوره إيجابا علي الناتج القومي الإجمالي الذي حقق نموا بنسبة 3,8 % ، فيما حققت القيمة الإجمالية للصادرات غير النفطية إرتفاعا بلغ 23%، بينما بلغت قيمة الصادرات 55 مليار دولار والواردات 48 مليارا الأمر الذي يظهر عدم وجود خلل ظاهر في ميزان المدفوعات.إلا أنه بالرغم من ذلك الإزدهار الآني الظاهري ، بقيت المشاكل الجوهرية المزمنة في الإقتصاد الإيراني نارا خامدة تحت الرماد بدأت تتجه نحو الإشتعال التدريجي مع زيادة حدة الأزمة النووية الإيرانية وتصاعد الإحتمالات بشان نزوع الغرب نحو تبني خيارات تصعيدية عقابية حيال طهران. فالإقتصاد الإيراني يعاني من عجز في الموازنة العامة للدولة بسبب الدعم الحكومي البالغ 7 مليارات دولار، كما يصل معدل التضخم إلي 16%، وتناهزنسبة البطالة 11%، ويعاني قطاع الإستيراد من عجزملحوظ في إحتياطي النقد الأجنبي وقطع الغيار، ويشكو قطاع الزراعة من نقص في رأس المال والمواد الخام ، ويبلغ الدين الإيراني العام 139 مليار دولار.وعلاوة علي ذلك كله، تشهد البلاد تراجعا ملحوظا في حجم الإستثمارات الأجنبية، كما تعاني من هروب رءوس الأموال من العملة الصعبة ، إلي جانب نزيف العقول المتميزة إلي الخارج في ظل تهديدات الغرب التي لا تنقطع بعزل إيران إقتصاديا وسياسيا أو معاقبتها عسكريا. وإنطلاقا من ذلك التردي الذي ضرب أطنابه في جنبات المجتمع والدولة الإيرانيين، تولدت مشاعر السخط الشعبي الجارف علي نظام الرئيس نجاد وسياساته، كما تبلورت معارضة سياسية شديدة لنهجه في التعاطي مع مختلف القضايا والملفات المثارة علي الساحتين الداخلية والخارجية. بيد أن هذه المعارضة لم تقتصر هذه المرة علي التيار الإصلاحي الذي يعد المنافس والمعارض التقليدي للمحافظين وإنما إمتدت بدورها لتضم بين صفوفها وفي صدارتها عناصر وأجنحة من التيار المحافظ نفسه، لاسيما بعد أن أمعن نجاد وبطانته في تحري التشدد والتطرف في أفكارهما وسياساتهما مستندين إلي أس أوتوقراطية جعلتهم غير عابئين بالتداعيات الخطيرة لذلك علي الصعيد الدولي ولا مكترثين بردود الفعل الشعبية في الداخل، حيث يرتأون أنهم مفوضون من قبل الله وأنهم ماضون في تشددهم تحت ظلال بركاته ورضائه دونما تحسب للعواقب أو إحتياج لتأييد الناخبين. فعلي خلفية الإجتماعات المتواصلة التي تجريها الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وألمانياقبل أيام لوضع إستراتيجية بعيدة المدي من أجل التعاطي مع الأزمة النووية الإيرانية ، إنهالت الإنتقادات علي سياسة الرئيس نجاد في ما يخص إدارته للملف النووي لبلاده من قبل التيار الإصلاحي .حيث دعت جبهة المشاركة، أبرز الأحزاب الإصلاحية الإيرانية التي يتزعمها محمد رضا خاتمي شقيق الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي ، إلي إجراء طهران لحوار مع كافة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي ، بما فيها الولاياتالمتحدة ، علي أن يواكب ذلك الحوارتعليق طوعي لأنشطة تخصيب اليورانيوم، وذلك بغرض إيجاد مخرج ملائم لطهران من نفق الأزمة النووية المظلم علي نحو يضمن لها تقليل خسائرها الآنية والمحتملة إلي أدني حد ممكن . وعلي صعيد مواز، طفقت قيادات ورموز سياسية إيرانية تكيل انتقاداتها للرئيس احمدي نجاد في ضوء شبح العزلة الدبلوماسية الذي يلاحق إيران مع تعقد أزمة الملف النووي. حيث إنتقد كل من الرئيسين الإيرانيين السابقين هاشمي رافسنجاني ومحمد خاتمي سياسات وتصريحات الرئيس نجاد غير الحكيمة والتي من شأنها أن تفضي بالبلاد إلي المزيد من العزلة، كما اعتبر القيادي الايراني الاصلاحي مهدي كروبي رئيس مجلس الشوري الايراني سابقاً، مثل هذه التصريحات بمثابة الوقود الذي يفاقم نيران الأزمة بين إيران والمجتمع الدولي في الوقت الذي تبدو فيه البلاد أحوج ما تكون لتجنب إحالة ملفها النووي إلي مجلس الأمن ومن ثم فرض المزيد من العقوبات عليها.وقبل أيام، بعث عدد من الشخصيات الإصلاحية الإيرانية، بينهم نواب من الدورة السابقة لمجلس الشوري الإسلامي وبعض الوزراء في حكومة محمد خاتمي ، برسالة صريحة إلي مرشد النظام آية الله علي خامنئي منددين خلالها بالعواقب الوخيمة والمخاطرالوشيكة التي باتت تهدد إستقرار إيران وأمنها الوطني بجريرة السياسات الرعناء التي يتبناها الرئيس أحمدي نجاد . وتشي تجارب وطبيعة الواقع السياسي الإيراني بأن إهتزاز شعبية الرئيس أحمدي نجاد في داخل بلاده بعد فترة قصيرة لم تتجاوز بضعة أشهر فقط مرت علي تقلده منصب رئاسة الجمهورية الإسلامية، إنما يرد إلي خطأ حساباته بشأن المراهنة علي الداخل الإيراني، حيث إن الرئيس المحافظ قد أخفق من جانبه في تقدير حدود أو مساحة الحركة والمناورة التي يمكن أن يتيحها له ذلك الخضم الهائل من التأييد الشعبي الجارف لتحديه لواشنطن وتل أبيب بإصراره علي المضي قدما في مواصلة نشاطات بلاده النووية. ذلك أنه قد أفرط في توظيف الداخل الإيراني لتدعيم موقفه في مواجهة الخارج علي الصعيدين الدولي والإقليمي ، كما بالغ في إستغلال سياساته التصادمية مع الخارج لإستجداء المزيد من الدعم والمساندة في الداخل، ظانا أن الأمور يمكن لها أن تستمر علي هذا النحو فيبقي هو البطل الشعبي المغوار الذي يتحدي العالم من أجل حلم بلاده النووي، وذلك دونما أدني تحسب لأن تتأتي أية عواقب وخيمة لسياساته الأكروباتية من شأنها أن تطيح بحساباته ومخططاته تلك، فتختل المعادلة ليرتبك الخارج ويتعقد ثم يزداد الداخل الإيراني تأزما، ومن ثم تغدو الأمور مهيأة لأن يؤول المآل بنجادإلي حيث إنتهي بسلفه خاتمي الذي إنتزع رئاسة البلاد بعد فوز مظفر في إنتخابات الرئاسة عام 1997 إستند إلي دعم شعبي غير محدود، غير أن نواياه الحسنة وتوجهاته الإصلاحية فيما بعد لم تكن لتعصمه من عقاب الجماهير الغاضبة ، التي أسفر تعثر مساعيه لتنفيذ برنامجه الإنتخابي وإنهاء معاناتها عن تآكل ثقتها فيه فعمدت إلي الإطاحة به عند أقرب إنتخابات . وههنا، يمكن الزعم بأن الداخل الإيراني الذي طالما شكل قاعدة وأرضية صلبة ما برح الرئيس نجاد يقف عليها ويستمد منها قوة وثباتا يؤازران تحديه للمجتمع الدولي فيما يتصل ببرنامج بلاده النووي، قد أضحي عرضة للتفتت والذوبان تحت أقدام الرئيس الإيراني الذي أساء التقديرات وعجز عن ضبط إيقاع التصعيد في تفاعلات الأزمة النووية الإيرانية بما يتناغم مع تعقيدات وتطورات المشاكل والأزمات المتنامية في الداخل الإيراني. وهو الأمر الذي من شأنه أن يجبره علي إبداء قدر أكبر من المرونة تنطوي بدورها علي شيء من تنازلات ، كيما يوجد لبلاده مخرجا من نفق الأزمة النووية المظلم.