عندما اجتمع وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم التحضيري السابق علي عقد القمة العربية قام وزير الخارجية الجزائري عبد العزيز بلخادم، والذي ترأست بلاده الدورة المنقضية للقمة العربية طوال العام الماضي، بتسليم رئاسة الاجتماع لوزير الخارجية السوداني تمهيدا لتولي السودان فترة رئاستها للقمة العربية. إلي هنا والأمر عادي بل وممل. لكن الجديد في الأمر هو شخصية وزير الخارجية السوداني بونا ملوال، فالرجل من بين المثقفين المشهود لهم بالجدية والاستقامة، وهو أيضا جنوبي وليس عربيا أو مسلما، أما الجزء الأكبر من حياته السياسية فقد قضاه في الدفاع عن قضايا الجنوب والسودان الجديد، ولكنه أصبح وزيرا للخارجية السودانية تطبيقا لاتفاق سلام الجنوب. تولي وزير خارجية غير عربي رئاسة اجتماع للجامعة العربية كان أمرا ملفتا للنظر، والملفت أكثر للنظر هو أن الوزير السوداني ليس الأول، فمن قبله كان هناك هوشيار زيباري وزير الخارجية العراقي كردي القومية، كما كان جلال طالباني رئيس العراق القادم من كردستان. وربما جاء وقت مثل فيه المغرب أو الجزائر في اجتماعات الجامعة العربية وزير أمازيغي، أو مثل لبنان فيها وزير أرمني. وبينما قد يشعر البعض بالصدمة لمثل هذه التطورات، إلا أنني لا أري أي سبب للصدمة، بالعكس، فإنها علامة علي اتجاه العالم العربي نحو النضج. فأخيرا باتت بعض الدول العربية مستعدة للاعتراف بكل مواطنيها علي أساس المساواة، وأخيرا أصبح لبعض من الأقليات الكثيرة المنتشرة في العالم العربي الحق في تمثيل سياسي يسمح لأبنائها بالوصول إلي مناصب سياسية كانت لزمن طويل حكرا علي أبناء القومية المسيطرة. وصول بعض الدول العربية إلي هذه المرحلة المتقدمة لم يكن أبدا بالأمر السهل. فقد سقط ملايين الضحايا في الصراع الذي حاولت خلاله الحكومات والجماعات القومية المسيطرة مواصلة سياسة منع الأقليات من الفوز بحقوق المساواة والمواطنة. ففي السودان كانت عشرون عاما من الحرب الأهلية هو الثمن المطلوب دفعه للوصول إلي اللحظة الراهنة، أما في العراق فقد نشبت الحرب في كردستان منذ تكونت مملكة العراق عام 1921. بالتأكيد لم يكن الطريق للحالة الراهنة سهلا وممهدا في السودان والعراق، غير أن الأكثر خطورة هو أن المستقبل المترتب علي التغيرات الأخيرة فيهما لن يكون سهلا أيضا. فبعد سنوات قليلة قد نجد جنوب السودان وقد تحول إلي دولة مستقلة، وهو ما تسمح به اتفاقية سلام الجنوب، أما في العراق فقد ينزلق البلد كله نحو حرب أهلية، وعندها قد تصبح كردستان دولة مستقلة، أو تصبح واحة الاستقرار الباقية من العراق القديم الذي قد يغرق قسمه الأكبر في حرب مذهبية لا تبقي ولا تذر. هذه الاحتمالات المخيفة ليست بالأمر المستبعد في البلدين وهي النتيجة المنطقية لسنوات طويلة سادت فيها سياسة إخفاء الرؤوس في الرمال لتجنب رؤية حقيقة التعددية الثقافية والقومية والدينية المميزة لبلاد عربية عدة، وسادت فيها سياسات التذويب والقهر القومي والثقافي والعرقي، فلم يتم الاعتراف بالحقائق الصلبة إلا قبل خمس دقائق من حلول الكارثة، في محاولة أخيرة لتجنبها بعد أن فشلت السبل الأخري كلها في تحقيق ذلك. وربما كان انعقاد القمة العربية مناسبة لملاحظة مغزي هذه التحولات علي الجامعة العربية. فالجامعة العربية التي تأسست علي أساس الهوية القومية للتنسيق بين الدول التي تتحدث شعوبها اللغة العربية تواجه ما يمكن اعتباره أزمة هوية بعد أن أصبح جانبا لا يستهان به من أعضائها لا يعتبر نفسه عربيا، أو بالأحري يعتبر العروبة واحدا فقط من أبعاد هويته القومية. وسوف يكون علي الجامعة العربية في المستقل القريب إعادة تعريف هويتها، أي ما إذا كانت تجمعا للشعوب العربية، أو تجمعا للشعوب والدول الموجودة في هذا الإقليم بغض النظر عن هويتها القومية. فالجامعة العربية القائمة علي أساس الاشتراك في القومية والثقافة تختلف كثيرا عن الجامعة العربية المنظمة الإقليمية القائمة علي أساس الجغرافيا. ويزداد هذا الفرق وضوحا بعد أن كفت الهوية القومية عن توفير أساس ملائم لتحديد مصالح الدول وسياساتها، وهو ما تؤكده حالة التشتت العربي الراهنة. ومن المرجح أن يزداد هذا الاتجاه قوة في السنوات القادمة، فالعراق، إذا قدر له تجنب التفكك والانزلاق إلي حرب أهلية، سوف يجد نفسه مرتبطا بإيران أكثر من ارتباطه مع أي بلد عربي آخر، كما قد يجد نفسه مشتبكا في صراع مع تركيا أكثر من اشتباكه في صراع مع إسرائيل. أما السودان فالأرجح أن تتجه تفاعلاته مع دول الجوار الأفريقي للتعاظم ربما علي حساب صلاته العربية، كما أن صعود النفوذ الشيعي في بعض دول الخليج قد يحدث تغييرات مهمة علي السياسة الخارجية لتلك الدول تجاه جيرانها الإيرانيين في الشرق والعرب في الغرب، وقد تتم تسوية سياسية للصراع العربي-الإسرائيلي في وقت ما في المستقبل، بما يعنيه ذلك من انتهاء الصراع الذي حافظ علي بعض مظاهر التنسيق والتوحد العربي حتي في أحلك الظروف. كل هذه تطورات تفرض علي الجامعة العربية إعادة تكييف هويتها ومؤسساتها وإدراكها لنفسها وللإقليم الذي تعمل فيه. لن يكون من السهل علي الجامعة العربية التكيف مع المتغيرات الجارية في المنطقة، فالأرجح أن ثقافة الجامعة وتقاليدها ستقف عائقا في هذا السبيل. غير أن التكيف المبكر مع هذه المتغيرات كفيل بجعل الجامعة العربية أكثر ملاءمة للتعامل مع الواقع الناشئ في المنطقة، وربما كان علي الجامعة أن تبدأ من الآن التفكير في صيغ جديدة تجمع بين الهوية القومية والنطاق الإقليمي كأساس للعضوية وصياغة الأهداف والسياسات، بعد أن كف الإقليم الذي نعيش فيه عن أن يكون عربيا خالصا، وبعد أن تغيرت هوية دول عدة فيه، وبعد أن تجاوزت تفاعلات دوله مع الجيران من غير العرب المستوي المتناسب مع دول عربية تصيغ سياساتها علي أساس هويتها.