روسيا الاتحادية ليست لديها أوهام بشأن ماتقوم به علي الساحة الدولية، لكن الدول العربية _ أو بصورة أدق تيارات صامدة في المنطقة _ لديها أوهام بشأن ماتقوم به روسيا، ويؤدي ذلك إلي مشكلة حقيقية، فبدلا من الاستفادة بشكل واقعي من الثقل المتوافر عمليا للدور الروسي، تجري مراهنات لا أساس لها علي دور ما قد يظهر في مدي ما ليوازن " الواقع القاسي" الراهن علي نحو يؤدي إلي فقدان فرص حقيقية، أو تظهر أحيانا تقديرات هي في الحقيقية " سوء تقديرات" تؤدي إلي الإنزلاق نحو "مواقف صعبة" في ظل تصور أن هناك من سيقول في النهاية لا، وتكون النتيجة إحباطات أخري، لذا يجب فهم روسيا وفقا للمنطق الروسي، وهناك بالفعل بعض المؤشرات التي تدل علي أن التصورات العربية قد أصبحت أكثر عملية، فهناك حد لما يمكن أن تستمر وفقا له التصورات المبالغ فيها، قبل أن تعود إلي أرض الواقع. إن أهم ملاحظة يمكن مشاهدتها بالعين المجردة في الفترة الأخيرة، هي أنه بينما بدا أن روسيا تقوم بسلسلة مما كان يعتبر تقليديا " ألعاب خشنة"، علي نحو يثير يقينا تلك الأسئلة الخاصة بالدور الروسي القادم الذي تتم من خلاله موازنة دور الولاياتالمتحدة، كانت النغمة السائدة في التحليلات العربية محافظة إلي حد كبير، فعلي الرغم من أن بعض المقالات عادت لتتحدث عن " القوة العظمي" العائدة، كان التيار الرئيسي يطرح أسئلة جادة حول دوافع التحركات الروسية، ومحددات الدور الروسي، ومدي إمكانية استمرار تلك السياسية، والمدي الذي ستصل إليه في النهاية، بل إن البعض قد تحدث عن احتمالات أن تكون هناك " انتهازية" روسية، وأن المسألة كلها قد لاتعدو رسائل موجهة للغرب وليس الشرق، وهي كلها تساؤلات تشير إلي منظور جديد لرؤية الأشياء. إن الفكرة التي أدت إلي إرباك واسع النطاق بشأن الدور الروسي هي مسألة أنها " وريثة الاتحاد السوفيتي" القديم، وبالتالي كان التصور المهيمن هو أن الدور الخارجي يمثل جزءا من بنية الدولة الروسية، وهو ماقد يكون صحيحا بالتأكيد، فدولة بحجم روسيا لايمكن تصور أنها يمكن أن تدير أمورها بدون دور خارجي مؤثر، لكن المشكلة أن ماورثته روسيا من الاتحاد السوفيتي لم يكن في الأساس هو " الدور الخارجي" وإنما المشاكل العاتية، التي خلفت حالة من عدم الاستقرار التي مست هيكل الدولة في الشيشان، واقتصادا منهارا إلي حد العجز عن دفع الرواتب، وترافق مع كل ذلك ظواهر أمنية واجتماعية فاقمت الموقف، وبالتالي كانت الأولويات الروسية خلال السنوات الماضية هي مسألة إعادة بناء الدولة وإعادة هيكلة الاقتصاد، وكانت مسألة الدور الخارجي بالمعني القديم مجرد ترف. لقد تركزت المصالح القومية الروسية علي الساحات الخارجية في هذا الإطار في " العامل الإقتصادي"،وهي مسألة مختلفة تماما عما ألفته منطقة الشرق الأوسط بشأن روسيا، وبالتالي كان التفسير الأسلم دائما لدوافع السلوك الروسي _ ومازال في بعض جوانبه _ يتمثل في التفتيش عن الاقتصاد وليس السياسة، سواء تعلق الأمر بتطوير العلاقات مع إيران أو عقد صفقات أسلحة مع سوريا أو اتخاذ موقف ضد غزو العراق أو الحديث عن الاقتراب مع العالم الإسلامي أو تنشيط العلاقات " الحساسة" مع بعض دول الخليج، فقد كان من الممكن رصد عوائد وأرقام الصفقات المتعلقة بتلك السياسة، أو متابعة روسيا بينما تقوم بمحاولة إنقاذ أموالها الضائعة أو استعادة الديون المستحقة لها أو تعويض خسائرها المالية في المنطقة، والتي قدرت خلال التسعينيات وصولا إلي عام 2003 إلي حوالي 30 مليار دولار من جراء العقوبات التي فرضت علي العراق فقط. لكن الأهم أن مصالح روسيا الاقتصادية لم تكن تتجه نحو الشرق الأوسط فقط، فقد كانت لديها مصالح كبري مع دول أوروبا الغربيةوالولاياتالمتحدة تتعلق بعمليات تمويل واستثمار وتجارة كبري، لاتقارن بصفقات المليارات القليلة _ رغم أهميتها بالطبع _ مع دول الشرق الأوسط، وبالتالي فإن المراهنة علي مصالح روسيا الاقتصادية مع بعض دول المنطقة، علي غرار ماقام به صدام حسين أو مايبدو أن إيران تقوم به أحيانا، وكذلك سوريا، كان ينقصها عنصر شديد الأهمية، وهي أن مصالح روسيا مع الأطراف الأخري كبيرة للغاية، كما أن تلك الأطراف قادرة علي تعويضها في الوقت الضروري ماليا، وهو ما أصبحت دول كثيرة مثل إيران تدركه في الوقت الحالي، فعلي الرغم من أن الورقة الروسية تبدو وكأنها عنصر قوة إيراني، إلا أن الصعوبات التي تسير وفقا لها مفاوضات تخصيب اليورانيوم في روسيا تشير إلي تعقيدات مدركة. لقد كان منطق السياسة الروسية واضحا دائما، للأسباب السابقة، وهو أنها علي استعداد لمعارضة بعض السياسات الأمريكية التي تري أنها ضارة بمصالحها، والمضي في الشوط حتي مدي معين، لكنها عندما يأتي وقت القرار، ويتضح أن الولاياتالمتحدة مصممة علي المضي فيما قررته، تقوم روسيا بتعديل كبير في مواقفها في اتجاه تلك السياسة الشهيرة في مجلس الأمن وهي " الامتناع" عن التصويت، بحيث لاتؤيد ولاتعترض، وإنما تسمح للأمور بأن تسير دون أن تقف في وجهها، وبصورة ما فإن ذلك لم يكن تخليا من جانب روسيا عن حلفاء أو مصالح، وإنما _ علي العكس _ تمسكا من جانبها بحلفاء ومصالح، لكن وفقا لتعريفاتها الخاصة بها، لاسيما وأن الدول الأخري قد اعتادت علي التعامل معها باحترام، فيما يتعلق بما تعتقد أنه بالفعل يمثل مصلحة قومية روسية، خاصة وأن روسيا لاتزال القوة الثانية في العالم من حيث امتلاك الأسلحة النووية، فهي قادرة مثل الآخرين علي تدمير العالم. لكن رغم كل ذلك تبدو في الفترة الأخيرة حركة واسعة النطاق لروسيا علي المستوي الخارجي، ولايمكن في رصدها تجنب فكرة أن بعض ماتتضمنه تلك التحركات الروسية ترتبط بفكرة الدور الخارجي بمستوي ما، فهناك علاقة استراتيجية متنامية مع الصين تطرح في إطارها أفكاراً حول شكل العالم، وهناك دور مؤثر في إدارة الأزمة النووية لكوريا الشمالية، يضاف لذلك توجهاتها الخاصة بالعراق وإيران وسوريا، ثم دعوة قادة حركة حماس لزيارة موسكو في نطاق معين، لكن المحددات هنا واضحة تماما، وأهمها : 1 _ أن مايجري يمثل بالفعل تنشيطا من جانب روسيا لدورها الخارجي، في اتجاه ممارسة سياسة خارجية أكثر ظهورا وحركة ولفتا للانتباه، بعد أن تمكن الرئيس الروسي فلاديميير بوتين من الوصول بالدولة إلي مستوي من الأمان السياسي والإقتصادي عبر تجربة إصلاح ضارية، لكن هناك فرقاً بين سياسة خارجية نشطة ودور لقوة عظمي علي النمط السابق، وبالتالي فإن ذلك يطرح فكرة التأثير الروسي. 2 _ أن رؤية روسيا لدورها الخارجي في العالم ، خاصة تجاه الولاياتالمتحدة، يقوم علي التعاون الذي يتضمن خلافات ومنافسات وربما انتقادات لكن ليس مواجهة ، فتصور روسيا للعالم في المرحلة الحالية لايقوم علي أنه " نظام صراعي"، علي غرار الطريقة التي يتصور بها فرقاء الشرق الأوسط لها، وبالتالي فإن ذلك يستبعد أيضا مسألة " الموازن الروسي". إن الفكرة واضحة تماما، وتطبيقاتها أيضا ملموسة في كل أزمة، فروسيا تعارض استخدام القوة المسلحة ضد كوريا الشمالية لكنها تعارض امتلاك بيونج يانج لأسلحة نووية أيضا، وروسيا تدفع في اتجاه الحل السلمي للمشكلة النووية الإيرانية لكن لديها سقفاً خاصاً بعدم امتلاك إيران برنامج تخصيب يورانيوم مفتوح، كما أنها تدعو قادة حماس لزيارة موسكو بما يعني أنها تؤكد ضرورة التعامل معها، لكن يتم إسماع حركة حماس نفس المطالب الدولية، مع مراعاة متطلبات العلاقة القائمة بنفس المستوي مع إسرائيل، والمسألة بعد ذلك واضحة، فروسيا تمارس سياسة خارجية خاصة بها، وفق ماتراه هي، مثل كل دول العالم، وهي سياسة متوازنة وجيدة، تؤدي إلي المزيد مما يسمي " استقرار الأزمات" عبر عدة أقاليم، وهي ليست بصراحة مسئولة عن أية أوهام أخري تتجاوز ذلك.