هناك نظرية طرحها أستاذنا الدكتور قدري حفني بعد نهاية الانتخابات البرلمانية، تتعلق بالكيفية التي يتصور أن الحزب الوطني الديمقراطي سيدير بها علاقته بجماعة الإخوان المسلمين التي أصبحت " فاعل" أمرا واقعا رسميا في الحياة السياسية المصرية، فهو يذكر أنه بدلا من أن يواجه الحزب الجماعة عبر الإصرار علي طرح أفكاره الخاصة، وإقناع الناس بها، ومواجهة ماتثيره بما يراه، والتعامل مع ماتقوم به بما يفعله. سوف يقوم الحزب بالمزايدة علي الجماعة علي أرضيتها الخاصة، وهي الدين، بأن يبدو وكأنه أكثر تدينا منها، وبأنه حريص علي الدين بأكثر من حرصها عليه، وبأن شعار "الإسلام هو الحل" ملك للجميع، في ظل اعتقاد بأن ذلك قد يفقدها ما يعتقد أنه مصدر قوتها لدي الرأي العام، ومع الوقت _ ولايتحمل د. قدري حفني مسئولية ذلك الاستطراد _ قد يتحول إلي "الحزب الوطني الديمقراطي الديني". وتتمثل الأسس المتصورة لتلك النظرية في أن هناك بين صفوف الحزب الوطني من يعتقد بالفعل بأن استخدام الإخوان المسلمين لشعار "الإسلام هو الحل" بكل ترجماته العملية التي تبدأ ببنود البرنامج الإنتخابي مرورا باجتذاب الأصوات المحايدة ووصولا لاستهداف المرشحين الآخرين، كان أحد الأسباب القوية لحصول الجماعة علي نسبة عالية من الأصوات، وبأن مسيرة المصحف والسيف سوف تستمر في مجلس الشعب علي نحو لايمكن مقاومته ببساطة من خلال طرح رؤي لبرالية واقعية، عادة مالاتكون شعبية، خاصة في ظل سمة التدين العامة التي يتصف بها المجتمع المصري، وموجة " المحافظة " _ وربما الانغلاق - التي تتوغل في ثقافته خلال السنوات الأخيرة، لكن الأهم أن صيغة فكر الحزب الوطني ذاتها ليست "علمانية"، وتولي الأبعاد الاجتماعية للسياسات أهمية خاصة، بحيث يمكن تكييفها دينيا دون مشاكل كبيرة. إن الفكرة هنا هي أن القيادات التقليدية للحزب الوطني _ بافتراض صحة النظرية - سوف تختار الطريق السهل، الذي تعرفه جيدا، والذي كررته مرارا، في فترات سابقة، فبعض تلك القيادات عمل قديما في ظل توجهات مختلفة، وكان قادرا علي التحول مع اتجاهات الريح، في ظل قناعات حقيقية أو اعتبارات عملية، أو طبائع الأمور، وسوف يكون في مقدورها أن "تطلق لحاها" بشكل مقنع دون أن تشعر بتناقض داخلي، لكن النتيجة المنطقية المفزعة في الحقيقة لحدوث ذلك ( في حالة حدوثه) هي أن الحزب الوطني الحاكم سوف يفقد نفسه بدلا من أن يؤكدها، وسوف يغير توجهاته بدلا من أن يتمسك بها، وسوف يواجه بنفس معضلة فرق كرة القدم التي تلعب علي ملعب آخر بعيدا عن جمهورها، فحتي لو أحرزت أهدافا، ربما تستمر في اللعبة، لكنها لن تسمع أصوات الجماهير، فلن يشجعها أحد. المثير في الأمر، أنه ظهرت في الفترة التي أعقبت نهاية الانتخابات البرلمانية مباشرة مؤشرات واضحة لذلك التوجه بشكل محير، فيما بدا وكأنه حالة فزع من التيار الديني، علي نحو قاد إلي تطورات لايعرف أحد علي وجه الدقة كيف ظهرت، كقراءة القرآن في بداية عمل اجتماعات مجلس الشعب الجديد، وهو ماكان يمثل تقليدا جديدا لاسابقة له، تراوحت تفسيراته بين كونه ترحيبا بالمعارضين الجدد علي سبيل إبداء حسن النوايا، أو أنه محاولة مبكرة لارتداء "العمامة الدينية" من جانب حزب الأغلبية، أو أنه مجاملة من جانب رئيس المجلس أثارت أقاويل لالزوم لها، ثم جري بعد ذلك تنازل آخر لايعرف أحد ما إذا كانت الواقعة المرتبطة به صحيحة أم لا، وهو تأجيل جلسة افتتاح الدورة البرلمانية لمجلسي الشعب والشوري، بفعل توقيت أداء الصلاة، ورغم أن كل ذلك كان رمزيا إلي حد بعيد، ولو كان يمثل تقليدا مستقرا لما كان سيلفت الانتباه، إلا أنه كان يحمل دلالات خاصة بالسلوك المحتمل للحزب الوطني، أو بدا كذلك. في الفترة الأخيرة ظهر أن مثل هذه التوجهات لاتزال قائمة إلي حد كبير، وكان المؤشر الرئيسي المتعلق بها هو الكيفية التي تعامل بها الحزب الوطني في مجلس الشعب مع مشكلة الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول الكريم صلي الله عليه وسلم، فبدلا من أن يتعامل الحزب الوطني مع الأزمة الحادة بشكل عقلاني مسئول يدين ماجري بشدة ويدعو _ في نفس الوقت - لرد فعل منضبط متوازن يحل المشكلة ويحفظ الحقوق ويفيد الإسلام، بدا الحزب الوطني وكأنه يزايد علي جماعة الإخوان المسلمين، متخذا موقفا شديد الصرامة ذا طابع إكتساحي يكاد يؤيد ما أسماه الدكتور علي جمعة أعمال " رفع الذيول" التي شهدتها شوارع الدول الأخري. صحيح أننا في مصر لم نبالغ إلي حد حرق السفارات، وبدا ماحدث في المجلس وكأنه تكتيك سياسي مفهوم، حتي لايستغل "جبابرة الأقلية" الموقف لزيادة الجماهيرية، كان ماحدث في المحصلة النهائية حركة أخري في اتجاه " النظرية". لكن بعد كل ذلك، ومع الاعتذار الشديد لأستاذنا د. قدري حفني، فإنني لاأتصور أن تلك النظرية سوف تصل إلي مداها ليتحول الحزب الوطني، ولو مجازا، إلي " حزب ديني"، فقد بدأ توجه واضح يمثل " التيار الرئيسي" داخل الحزب يفكر بشكل مختلف فيما حدث في الانتخابات، في إطار حالة من النقد الذاتي التي طالت 75 في المائة تقريبا من تلك الأوضاع التي أدت إلي المشكلة التي واجهها الحزب في الانتخابات، فعلي الرغم من أنه لايزال هناك من يولون أهمية لتأثير استخدام الشعارات الدينية في الانتخابات الماضية، فإن الأغلبية تري أن مشاكل الحزب الداخلية هي التي تفسر بصورة أدق ماجري له، فقد خاض الحزب الانتخابات في ظل معركة تكسير عظام بين مرشحيه ومستقليه، وساهمت " الإدارة" نفسها في عملية التشتيت بصورة غير مسبوقة، وهناك وقائع مهمة بهذا الشأن، يضاف لذلك، مايلي : 1 _ الأصوات الاحتجاجية التي يوجد إدراك كاف حول وجودها، والتي ترتبط بعوامل معقدة، لن يجدي في التعامل معها اللجوء إلي إطلاق اللحي، فهناك أشياء عملية مطلوبة. 2 _ التجاهل الطويل لأهمية العمل الإجتماعي في الدوائر المختلفة، بصرف النظر أو إضافة إلي العمل السياسي الذي يفيد أساسا علي المستوي القومي بأكثر من الدوائر المحلية. وقد أدي ذلك إلي بداية تفكير في كيفية " المواجهة" السياسية الحقيقية لإعادة تأكيد الذات استنادا علي أرضية وأفكار الحزب ونشاط كوادره التي يبدو أنه سيتم الاستماع لها، بدلا من فكرة " توفيق الأوضاع" التي لاتمثل أكثر من لعبة سياسية قصيرة النظر يمارسها محترفون يفكرون بمنطق البقاء، علما بأن المواجهة هي الخيار الأصعب في ظل وجود مشكلات حقيقية تتطلب تعاملا جادا معها، لكن ذلك لايغير شيئا، فلايوجد خيار حقيقي أمام الحزب الوطني إلا أن يعيد ترتيب أوضاعه من الداخل، ثم مع المحتجين في الخارج، ثم مع التيار الأعرض من المواطنين، وهذا هو التحدي الحقيقي الذي يبدو أحيانا وكأنه "رهان"، في ظل بعض الأوضاع التي لاتوجد تقديرات محددة بشأنها، لكن في كل الأحوال فإن إضافة كلمة " الديني" في نهاية اسم الحزب لن تحل مشكلته، بل قد تزيدها تعقيدا.