بعيداً عن الشعارات الطنانة من نوع أن فلسطين وقف اسلامي وأنه لا بد من تحريرها كلها من البحر الي النهر. وبعيداً عن الكلام المجتزأ الذي يصدر عن قياديي "حماس" عن الهدنة الطويلة وشروطها وهو كلام لا يعني شيئاً أحياناً كما يعني الكثير في الوقت ذاته، ثمة مشكلة داخلية فلسطينية تتمثل في أن المواجهة باتت واضحة بين شرعيتين: شرعية السيد محمود عباس (أبو مازن) رئيس السلطة الوطنية المنتخب من الشعب مباشرة قبل نحو ثلاثة عشر شهراً بأكثرية تفوق تلك التي حصلت عليها "حماس" في الانتخابات الأخيرة للمجلس التشريعي من جهة، وشرعية الحكومة التي تنوي الحركة تشكيلها قريباً من جهة أخري. إنه وضع يشبه، الي حد ما، ما كان يحصل في فرنسا عندما تسفر الانتخابات التشريعية عن ظهور أكثرية نيابية معارضة لرئيس الجمهورية. واجهت فرنسا هذا الوضع إبان وجود الرئيس فرنسوا ميتران في الرئاسة بين العامين 1981 و1995، ثم في عهد الرئيس الحالي جاك شيراك الذي اضطر الي تكليف خصمه السياسي ليونيل جوسبان تشكيل الحكومة في العام 1997، وبقي جوسبان رئيساً للحكومة حتي أيار مايو 2002. اخترعت فرنسا عبارة "التعايش" أو "المساكنة" بين رئيس الجمهورية الذي لا يمتلك أكثرية في الجمعية الوطنية (مجلس النواب) وزعيم الأكثرية النيابية الذي لم يجد الرئيس مفراً من تكليفه تشكيل الحكومة. كانت التجربة الأولي في العام 1986 عندما أصبح جاك شيراك رئيساً للحكومة في عهد ميتران. وتعايش الرجلان علي الرغم من الكره الذي كان يكنّه رئيس الجمهورية لشخص رئيس الحكومة، ذلك أنه لم يعد سراً وقتذاك أن ميتران المتعجرف ليس معجباً بشيراك. كان لا بد من تسيير شئون البلد ما دام الرئيس المنتخب من الشعب مباشرة شرعياً، وما دامت الأكثرية النيابية تمتلك هي الأخري شرعيتها المستمدة من الشعب أيضاً. وما دام الدستور الفرنسي لم يحسم ما إذا كان النظام المعمول به رئاسياً مئة في المئة أم برلمانياً مئة في المئة. ترك دستور الجمهورية الخامسة الذي وضع علي قياس ديجول بعض الأمور عالقة الي حد ما. ويبدو الدستور الفلسطيني الذي وضع علي قياس ياسر عرفات شبيهاً بدستور الجمهورية الخامسة في فرنسا. إنه دستور يتأرجح بين النظام الرئاسي حيث الرئيس كل شيء تقريباً كما في الولاياتالمتحدة... والنظام البرلماني حيث الحكومة كل شيء تقريباً وحيث رئيس الجمهورية أقرب الي موقع الحكم من موقع رئيس السلطة التنفيذية. أدرك "أبو مازن" بعد الانتخابات أنه الرئيس الشرعي وأن لديه سلطات كثيرة وأن في استطاعته أن يقيم توازناً مع "حماس" التي ستشكل الحكومة المقبلة. هذا حق من حقوقه يمارسه بموجب الدستور. كان في الامكان التساهل مع مثل هذه الأمور والقضايا في الماضي ما دامت "فتح" في السلطة وما دام الوزراء من "فتح" أو من القريبين من الرئيس الفلسطيني. الآن تغيرت قوانين اللعبة ومن الطبيعي أن يستعيد الرئيس الفلسطيني صلاحياته. كل صلاحياته. ما ليس طبيعياً أن تعتبر "حماس" أنها كل الشرعية وأن الرئيس مجرّد رئيس فخري. لقد جرت الانتخابات التشريعية بموجب الدستور الذي هو من ثمار اتفاق أوسلو. لا يستطيع المرء دخول لعبة ما استناداً الي قوانين معينة معروفة سلفاً ثم العمل لاحقاً علي تغيير هذه القوانين من منطلق أنها لا تعجبه. من واجب كل من الرئيس الفلسطيني و"حماس" العمل علي إيجاد صيغة للتعايش بين الرئاسة والحكومة. علي غرار ما حصل في فرنسا منذ العام 1986 حين حصل التعايش للمرة الأولي. لا مفر من إيجاد مثل هذه الصيغة التي تصب في خدمة الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال. ثمة من سيقول أن لا مجال للمقارنة بين فرنساوفلسطين، بين قوة عالمية تتمتع بالعضوية الدائمة لمجلس الأمن وبين شعب لا يزال تحت الاحتلال. الرد علي ذلك يكون بأن الدستور يجب أن يحترم نصاً وروحاً ذلك أن هدفه تسهيل حياة المواطن وتنظيمها. لقد استطاعت مؤسسات فرنسا التكيف مع متطلبات الدستور ويفترض في المؤسسات الفلسطينية، أو ما بقي منها، عمل الشيء ذاته في وقت يمكن أن توضع الخلافات السياسية جانباً ما دامت إسرائيل علي غير استعداد إلا لتنفيذ خطة رسم الحدود النهائية للدولة من دون التفاوض مع الجانب الفلسطيني. وبكلام أوضح، تبدو عملية السلام في حال من الجمود الي أجل غير مسمي فلم الاختلاف علي أشياء وهمية؟ لكن ذلك لا يمنع الجانب الفلسطيني من إظهار أن خلافاته الداخلية ستظل في إطار الدستور وأن الانتصار الذي حققته "حماس" والذي سيمكن حركة الاخوان المسلمين من تشكيل حكومة بفضل صندوق الاقتراع للمرة في تاريخ المنطقة، لا يعني أن الحركة تسعي الي تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني وفرض قوانينها عليه. ليكن الدستور الحكم بين الشرعيتين الفلسطينيتين لا لشيء إلا لأن الاحتكام الي الشارع والي السلاح لا طائل منه ولن يخدم سوي المشروع الإسرائيلي الذي سيتذرع بالطرح السياسي ل"حماس" لابلاغ العالم أن لا وجود لشريك فلسطيني يستطيع التفاوض معه!.