تميزت الوزارة الأولي التي شكلها الدكتور أحمد نظيف قبل ثمانية عشر شهراً بصعود قوي لتيار جديد، تمثل في إدخال وزراء من الوجوه الشابةالجديدة المحسوبة علي الاتجاه الإصلاحي في الحزب الوطني، والذي ينادي منذ عدة سنوات بإدخال إصلاحات ليبرالية واسعة النطاق علي طريقة إدارة الاقتصاد المصري. وبينما ظهر اثنان من رجال الأعمال في وزارة نظيف الأولي، إلا أن الوزارة اكتسبت طابعها الليبرالي من الوزراء الأكاديميين ذوي الميول الليبرالية أكثر منه من وجود رجال الأعمال. لقد تعمق الاتجاه الليبرالي لحكومة الدكتور نظيف في تشكيلتها الثانية، ولكن هذه المرة من خلال زيادة عدد الوزراء القادمين من قطاعات الاستثمار والأعمال. فقد ضم الدكتور نظيف لحكومته الثانية عددا لا بأس به من القادمين من القطاع الخاص، الأمر الذي يعكس زيادة دور رجال الأعمال في الحكومة وصنع السياسات العامة في مصر، وهو ما يرجح له أن يكون مثارا للجدل في الفترة المقبلة. فبالنسبة للبعض يمثل مجرد وجود رجال الأعمال في الحكومة أمرا غير مقبول، ويعتبره تمكينا لرأس المال من السيطرة علي الحكم، وهو الرأي الذي يستند إلي اتجاه إيديولوجي يساوي بين رأس المال والاستغلال. أما بالنسبة للبعض الآخر فإن وجود رجال الأعمال في الحكم يفتح الباب للتربح واستغلال النفوذ من خلال تسخير المال العام لخدمة المشروع الخاص، وهي وجهة نظر تنطلق من نوع من المساواة بين الثراء من ناحية والنهب والأعمال غير المشروعة من ناحية ثانية. لقد ثبت خطأ الفرضية التي ينطلق منها أصحاب الايديولوجيات اليسارية حول العلاقة بين رأس المال والاستغلال، فمع الإقرار بأن المصالح الطبقية تساهم بدرجة كبيرة في تحديد الاختيارات السياسية، إلا أن المطابقة بين المصالح الطبقية لرجال الأعمال والاستغلال ليست بالأمر الذي يمكن قبوله علي إطلاقه، خاصة بعد أن بينت التجربة التاريخية أن أكثر المجتمعات نجاحا في تحقيق مصالح الفقراء والأغلبية من السكان هي نفسها المجتمعات التي تحقق مصالح رجال الأعمال والأغنياء، وأن المجتمعات التي حاولت تجاهل مصالح الأغنياء، بل وإلغاء التفاوت الطبقي نفسه، انتهت إلي مآل لا يمكن اعتباره نموذجيا وقابلا للمحاكاة. فالعلاقة بين الأغنياء والفقراء ليست بالضرورة متعارضة، إلا عند النظر للأمور بمنظار ايديولوجي ضيق، كما أن هناك مساحة واسعة للاتفاق والمساومات والحلول الوسط بين مصالح الفقراء والأغنياء، بحيث تتكامل مصلحة كل منهما مع مصلحة الآخر. أما المطابقة التي يقوم بها البعض بين الثراء والنهب، فتعكس نوعا من المذهب الأخلاقي الذي يقوم علي الشك في المال والثراء باعتبارهما ظواهر غير أخلاقية، كما يستند إلي درجة عالية من انعدام الثقة في الآخرين، الذين يجري التعامل معهم علي أنهم لصوص حتي يثبت العكس. المساواة بين رأس المال والاستغلال هي رؤية ايديولوجية تعكس تيارا لا يستهان به في الفكر السياسي العالمي، أما المساواة بين رأس المال والنهب والسرقة فهي رؤية أخلاقية تشيع في أوساط الفقراء الذين لا يجدون مخرجا من فقرهم المزمن رغم الجهود الهائلة التي يبذلونها، كما تشيع في أوساط البيروقراطية التي لا تعرف مصدرا للثروة سوي المرتب الحكومي الهزيل. ولعل المفارقة تتمثل في أنه في الوقت الذي تكون فيه في مصر ما يشبه الإجماع علي الأخذ باقتصاد السوق، بعد أن بينت خبرات وتجارب مجتمعات كثيرة أن اقتصاد السوق يمثل الطريق الأسرع والأكثر فعالية للنمو الاقتصادي وتحسين مستويات معيشة القسم الأكبر من السكان، فإن الأبنية الايديولوجية والقيم السائدة مازالت تنظر بتشكك إلي رجال الأعمال وأنشطة الاستثمار، كما لو كان هناك تفضيل للأخذ بنظام السوق علي أن تتولي إدارته نفس الفئات البيروقراطية القادمة من قلب جهاز الدولة، والتي بينت خبرتنا معها طوال العقود الثلاثة الماضية أنها تقاوم تحقيق إصلاح يحد من سيطرتها علي موارد المجتمع، ويؤدي إلي خلق مراكز ثقل ونفوذ اجتماعي وسياسي مستقلة عنها، وأن السياسات الهجين التي تحاول تطبيقها، والتي تسعي من خلالها للجمع بين اقتصاد السوق وسيطرة البيروقراطية لا تؤدي فقط إلي تعويق النمو، وإنما أيضا إلي زيادة فرص الفساد، عبر مبادلة الثروة المتاحة لرجال الأعمال بالسلطة المتاحة لدي البيروقراطية، الأمر الذي كانت له عواقب وخيمة علي الاقتصاد الوطني وعلي شرعية الحكم وعلي الأوضاع السياسية في البلاد. وليس من العدل تحميل رجال الأعمال واقتصاد السوق المسئولية عن الفساد الذي نشكو منه، بينما تتحمل البيروقراطية المسئولية الأولي عنه، باعتبارها الطرف الذي كان يجلس في موقع القيادة طوال هذه السنوات. لقد بينت خبرتنا الطويلة مع محاولة التحول نحو اقتصاد السوق عبر الأساليب والقيادة البيروقراطية عقم هذا الأسلوب، الأمر الذي بات يستلزم الاستعانة بالعناصر والفئات الأكثر فهما لاقتصاد السوق ومقتضيات عمله بكفاءة، والتي يوجد العدد الأكبر منها بين رجال الأعمال. فوحدة التوجهات والتجانس بين وزراء المجموعة الاقتصادية الذين عملوا مع بعضهم البعض لفترة طويلة في إطار لجنة السياسات في الحزب الوطني يمكن أن يوفر أساسا لإصلاح اقتصادي أكثر انسجاما، بدلا من حالة التمزق التي عرفناها لسنوات طويلة، والتي جعلت من المألوف للحكومات المصرية السابقة تطبيق سياسات متناقضة تلغي أثر بعضها البعض بطريقة أدت إلي تدهور شديد في أحوال الاقتصاد المصري، مما أساء لليبرالية الاقتصادية في الوقت الذي كانت فيه السياسات الهجين للحكومات المتعاقبة هي السبب الرئيس للمشكلة. ومع هذا فإنه لا مفر من أخذ تحفظات المتحفظين بعين الاعتبار، فالشفافية وفتح قنوات التفاوض بين ممثلي الطبقات الاجتماعية المختلفة يمكن له أن يجنبنا سيطرة طبقة اجتماعية معينة علي مقاليد الأمور علي حساب الطبقات الأخري. كما أن تحديث القوانين والتشريعات بما يضمن التمييز الدقيق بين المال العام والمال الخاص، وتشديد العقوبة علي المخالفات التي قد تحدث في هذا المجال، بات أمرا ضروريا، حتي تتحقق نزاهة الحكم، وحتي يطمئن المتشككون.