تكرار .ثورة الياسمين . عندما قام الشاب التونسي محمد بوعزيزي بائع الخضار بإشعال النار في جسده أمام بلدية سيدي مسعود منذ عدة اسابيع تقريبا، لم يكن يتوقع أحد إطلاقا في تونس أو خارجها أن انتحار هذا الشاب وموته حرقا بعد ذلك سيكون سببا في ميلاد ثورة شعبية في تونس الخضراء، وبداية تغيير للحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية في هذا البلد العربي الصغير، بل إن ثورة بوعزيزي قد يكون لها تداعياتها وتأثيرها لا في دول شمال أفريقيا فقط المجاورة لتونس، بل في دول عربية عديدة بأشكال مختلفة، لأن هناك ظروفا مشابهة للوضع في تونس في بلدان عربية عديدة، من ناحية انتشار البطالة وارتفاع الأسعار وزيادة الفقر، أوبقاء رؤساء وملوك عهودا طويلة في السلطة، وتحت مظلة الحزب الواحد، وبهامش ديمقراطي مصطنع يضم أحزابا ورقية ومجتمعا مدنيا مغلوبا علي أمره، بل وتمارس تلك الدول ديمقراطية علي" الطريقة العربية " التي تكاد تضع الحكام في مصاف الملائكة الملهمين، والذين لايحاسبون لأنهم منزهون عن الأخطاء، وهؤلاء الحكام وبطانتهم يلتصقون بكراسي السلطة أكثر وأكثر عن طريق انتخابات غالبا ماتكون مزورة، وهدفها إقصاء المعارضين، وانتقاء المؤيدين، بل واختيارالمعارضين منزوعي الآنياب والمتحالفين مع السلطة أحيانا، وكل هذه المنظومة، من حكام ووزراء ومسئولين وموظفين كبار وعساكر، بل ونواب في البرلمانات العربية، يساندها ويطبل لها أجهزة إعلام حكومية أو قومية أو وطنية، أما المعارضون الحقيقيون فهم أعداء الآنظمة العربية، والذين يمارس عليهم كل أنواع القمع والقهر والمحاربة في الرزق وتشويه السمعة أحيانا والتهميش المنظم. والغريب أن ثورة بوعزيزي في تونس والتي كانت ثورة شعبية في المقام الأول والتي بدأت بمظاهرة احتجاجية بسيطة، وانتهت بسقوط نظام ديكتاتوري بأكمله، قد أثبتت أن أول من يداسون بالاقدام ويفرون مثل الفئران المذعورة ويختفون هم بطانة الحاكم وسدنته، وأن أول من يضربون بالأحذية ويضعون في السجون ويعلقون في المشانق هم المقربون إلي الحاكم المستبد، لأنهم عاثوا في الارض فسادا، ومصوا دماء الشعب، وكانوا عونا للحاكم كي يظلم وينكل ويقصي معارضيه ومخالفيه. الكل يخشي الآن من استنساخ ثورة بوعزيزي التونسية في بلاد عربية عديدة لتشابه الظروف لأننا "كلنا في الهم شرق ". ولكن معظم الحكومات العربية فاقت من غفوتها، وتسعي الان إلي التفكير في مصالح شعوبها وتطلق تلك الحكومات الان التصريحات النارية الكاذبة أحيانا، والتي تعرض الوعود بل الرشاوي أحيانا أخري خوفا من غضب تلك الشعوب، لأن الحكام أعطوا لهم الأوامر بأن يرضوا الجماهير حتي ترضي عنهم، وحتي لايلقوا نفس مصير حكومة الغنوشي التونسية التي يختفي وزرائها في حواري تونس الآن، ويغلقون منازلهم علي أنفسهم خوفا من عقاب الشعب، بعد أن فر معظم الوزراء وكبار المسئولين الفاسدين من سفينة البلاد قبل أن تغرق وهربوا للخارج مثل الجبناء. بعض الدول العربية تخشي الآن من أن تمتد كرة اللهب التي اشتعلت في جسد الشهيد بوعزيزي في مدينة سيدي أبوزيد وتدحرجت حتي جابت كل ولايات ومدن وشوارع تونس، وتصل تلك الكرة الي محافظات وشوارع عربية، يعاني شبابها من نفس الظروف في تونس.. أي البطالة وارتفاع الأسعار وزيادة الرشوة والفساد والمحسوبية قي الأوساط الحكومية والقمع الأمني وغياب الحرية الحقيقية، وتحجيم الأحزاب السياسية، وتهميش منظمات المجتمع المدني، وبقاء الحاكم سنوات طويلة في السلطة. ولكن نموذج ثورة بوعزيزي في تونس، أو ثورة الياسمين، قد لايكون قابلا للاستنساخ بسهولة في دول عربية، خاصة التي تحكم بالنظام الملكي. فشعوب الدول العربية ذات الآنظمة الملكية لاتسطيع تغيير العائلة الملكية بسهولة، بسبب إن معظم تلك الدول والممالك غنية بالبترول، ومستوي معيشة أفرادها مرتفع، لأن عوائد النفط توزع بالتساوي بين أفراد الشعب تقريبا، كما أن تلك الدول أو الممالك تحكمها أنظمة قبلية في الأساس، وتعايشت شعوبها مع هذا الوضع سنوات طويلة وتوارثت الأجيال المتعاقبة هذا المفهوم الخليجي الذي يعتبر أن الأسرة الملكية الحاكمة هي أكبر قبيلة في الدولة أو المملكة، وإن الملك أو الامير هو شيخ أكبر قبيلة، بل والأب الروحي لتلك الدولة. فعلي سبيل المثال لم أعهد طوال حياتي أن هناك ملكا يقوم شعبه بل وكبار المسئولين فيه بتقبيل يده، أو تؤلف الأغاني لملك آخر وتتحول إلي رنات موبايل، لأن الملك يجري عملية جراحية في الخارج، وقد يكون ذلك حبا وإحتراما زائدا، ومثلي لايقدر نعمة الله التي يمنحها لشعوب، والتي يكون القدر رحيما بها وترزق بملك أو امير أو رئيس، يحكمها ويرعي شئونها. كما أن هناك شبابا في دول عربية ولدوا وتربوا وترعرعوا وتعلموا وكبروا وتخرجوا وتزوجوا، وهم لايعرفون سوي رئيس واحد، وملك وحيد وبالتالي من الصعب أن يثورون عليه من باب الأدب والاحترام والوفاء. نعم رغم تشابه الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية بتونس في بلاد عربية عديدة، إلا أن استنساخ ثورة بوعزيزي وتكرارها وامتدادها في الوقت الحالي لدول أخري قد يكون صعبا لأسباب عديدة أهمها، إن الحكومات العربية تنبهت وتعلمت الدرس جيدا، وثانيا إن حجم الفساد في تونس أكثر بكثير من دول عربية أخري، خاصة بين حاشية بن علي الرئيس التونسي السابق، بل وزوجته ليلي الطرابلسي وأشقائها، وهذا الفساد العائلي غير موجود في مصر أوليبيا أوالسودان أوموريتانيا علي سبيل المثال، بالإضافة إلي قوة المجتمع المدني في تونس، والذي نظم ونسق ثورة بوعزيزي، وحول المظاهرة الاحتجاجية البسيطة إلي ثورة سياسية، أدت إلي سقوط رئيس الدولة وحاشيته وميليشياته، والتي أطلقت الرصاص الحي علي صدور الشباب التونسي وقتلت أكثر من 123 شابا من خيرة الشباب الحر التونسي، والتي أيضا تحركت بعد هروب بن علي، وتعيين رئيس جمهورية مؤقت وقامت بنهب المحلات والمنازل، وتحولت من ميليشيات منظمة إلي عصابات مسلحة تطلق النار علي المدنيين الابرياء، من أجل إحداث فوضي خلاقة علي الطريقة الأمريكية وتقويض الثورة الوليدة بعد نجاحها العظيم والتي أبهرت العالم الخارجي قبل الشعوب العربية. وقد تصدت قوي المجتمع المدني التونسي لذيول وعصابات بن علي، وتم تشكيل لجان أهلية لحماية مكتسبات الثورة، وتسيير الحياة داخل المدن التونسية، ولكن لاتوجد منظمات مجتمع مدني في دول عربية عديدة بقوة المنظات التونسية، مما قد يجعل الثورة التونسية صعبة التكرار في دول عربية أخري في الوقت الحالي علي الاقل، بل إن تكرارها في ظل الاوضاع المجتمعية الحالية وغياب دور المجتمع المدني، قد يكون طريقا لقمع الشعوب إذا فشلت ثوراتها، وتكميم الأفواه وتقليص الحريات، أوحدوث فوضي شاملة إذا نجحت تلك الثورات.