ان تجربة زواج رجل الأعمال من السلطة في حاجة الي مراجعة شاملة وجادة حتي لاينتهي الأمر بتحويل أفريكاسيا الي شركة مساهمة! حين كتبت هذه الرواية ..رواية عراف السيدة الأولي عام 1998 والتي صدرت عبر سلسلة الكتاب الفضي بنادي القصة عام 2002لم يدر بخلدي أن دولة افريكاسيا التي تدور أحداث الرواية علي مسرحها سيكون لها وجود حقيقي علي خرائطنا ولو بعد مئة عام .. الا أن بعض الأصدقاء من القراء والنقاد.. يلحون الآن علي أن ما تنبأت به في الرواية أصبح واقعا ..حيث تحولت دولة افريكاسيا بالفعل الي شركة ..استحوذ رجال الأعمال علي كل أسهمها.. والرواية ترتكز علي فكرة الدولة النامية التي تبحث لها عن مكان آمن بعد انهيار الشيوعية وتدشين النظام العولمي الجديد ..لكن فرقاء اللعبة السياسية في الدولة من شيوعيين وسلفيين ورجال أعمال ونظاميين يدخلون في صراع هائل مدفوعين بمنطق خوف الجرذان وأسنانها ..كل خائف أن يزاح من الميدان .. لذا يحارب بلا هوادة ليظل رقما فاعلا في اللعبة .. تهرع السيدة الأولي الي كبير العرافين تسأله الحل ..فيهديها وصفة يباركها الأمريكان ..تحويل الدولة الي شركة مساهمة ..يديرها مجلس ادارة من كبار المساهمين .. ويتولي الأمن فيها شركات خاصة ..دولة بلاجيش ولاشرطة ولابرلمان ..! وبالطبع طالما ان الدولة تحولت الي شركة مساهمة كانت فرصة هائلة لرجال الاعمال ليتولوا القيادة .. ..وحتي الأيديولوجيون تحولوا الي رجال اعمال دون أن يتخلوا عن لافتاتهم السياسية والدينية ..الشيوعيون والسلفيون والليبراليون ..! كل يبحث عن مكان حول المائدة ..! باركت واشنطن الاقتراح التي رأت فيه نموذجا لما ينبغي ان تكون عليه المجتمعات في ظل العولمة ..حيث تتلاشي الدولة بمفاهيمها التقليدية للحدود الجغرافية والوطنية والمواطنة .. ليبرز شكلا جديدا ..الدولة الشركة ..التي يديرها رجل الأعمال وهوية مواطنيها ليست جوازات سفر أو رقم قومي ..بل كارنيه الشركة .. والأمن تديره شركات خاصة ..! ومجلس الادارة هو السلطة التنفيذية وأيضا التشريعية ..فلا برلمان ولا مجلس وزراء .. وما كان في ذهني دولة بعينها وأنا أعكف علي كتابة الرواية ..لكن النقاد ألحوا عند مناقشتها في أكثر من منتدي أدبي أن أفريكاسيا ما هي الا مصر .. ومن حين لآخر يذكرني بعضهم بالرواية ..كلما طفحت خرائطنا السياسية بفضيحة بطلها أحد رجال الأعمال .. من نواب القروض الي احتكار حديد التسليح الي رشاوي البترول الي مقتل سوزان تميم الي عقد مدينتي الي أبعدية الوليد بن طلال في توشكي .. الي ..ويقول أستاذي يوسف الشاروني انها رواية تنبؤية .. وأكرر :ماكانت مصر مقصدي ..! لكن هذا لايمنعني من أشارك ملايين المصريين شعورهم أن رجال الأعمال استشري نفوذهم بما قد يمثل تهديدا للسلام الاجتماعي ..! ومن رحم ذات الشعور ينتابني اعتقاد - آمل أن يكون غير صحيح -أن مستنقع الفساد في مصر ينضح من بئرين يرتبطان معا بصلة جينية..سوء النية ..وسوء الادارة .. فتمكين رجال الأعمال يعزي بداية الي سوء الادارة ..النوايا بلا شك حسنة ..رجل الأعمال الناجح ..لم ينجح الا لأنه يجيد التخطيط والتنفيذ ..وبالتالي حين نستعين به وزيرا فسوف تنعكس قدراته التخطيطية وخياله الخلاق ايجابيا علي مستقبل المحروسة ..مشاريع تدار بأساليب علمية ونظم اقتصادية جيدة ..فيعم الخير والرفاهية وتتلاشي بالطبع طوابير البطالة ..! أما رجال الأعمال الذين لايمكن الاستعانة بهم في غرف صناعة القرار ..فينتظرهم واجب وطني ..مقدس ..الدولة ستمنحهم ألاف الأفدنة ..الفدان بمئة أو حتي بخمسين جنيها ..ليقيموا مشروعات عقارية توفر شقة ان لم يكن فيلا لكل مواطن ومشاريع زراعية وصناعية توفرفرصة أو فرصتي عمل لكل شاب ..فان تقاعس رجال الأعمال بحجة التمويل ..فالبنوك جاهزة ..والضمان .. الأرض التي يحصل عليها المستثمر ولايهم ان كان فرنسيا أو حتي اسرائيليا من الباطن.. ولايهم أن يسعر متر الأرض بألف جنيه ! المهم أن يكون رجل الأعمال راضي ..ويقيم مشروعات الخير التي تعم المحروسة فيختفي الجوعي والمرضي وأولاد الشوارع ..سياسة نبيلة ..تحويل مصر الي مشروع بيزنس يتولاه رجال الأعمال ..! لكن المشكلة أن اصحاب هذا التوجه ..ولايمكن التشكيك في نواياهم ..غاب عنهم أن بعض رجال الأعمال لاوطن لهم ولاهوية الا اليورو والدولار والاسترليني ! وحتي رجال الأعمال في مجملهم ليسوا ملائكة ..انهم بشر ..يمرون بلحظات ضعف مثل أي انسان ..وقد يتصادف أن تكون لحظة الضعف تلك في وقت يصنع فيه قرار ما ..هل يمكن للوزير الذي هو رجل أعمال أن يطبخ قرارا بقصر العلاج علي نفقة الدولة في المستشفيات الحكومية وهو مالك أو شريك في بعض المستشفيات الخاصة ؟! وهل يمكن لمسئول ثان لديه مصانع أسمنت أو حديد وصلب أن يبارك قرارا يتيح للدولة اقامة مشاريع لانتاج السلعتين المهمتين لصناعة البناء منعا للاحتكار ! ان كان هذا المسئول مواطنا " صالحا " لن يفعل .. أما ان كان مواطنا فاسدا فكل القرارات التي تصنع لن يكون فقط حريصا علي ألا تضر بمصالحه ..بل وتصب في صالح شركاته ومصانعه ..! وقد يرد أحدهم أنه حتي في الأنظمة الليبرالية يوجد رجال اعمال في السلطة ..بل وعلي رأسها ..بيرلسكوني في ايطاليا علي سبيل المثال ..هذا صحيح ..لكن أيضا لديهم منظومة صارمة من المراقبة والمحاسبة ..لا أحد كبير عليها ..الكل سواسية أمام القانون ..! والويل لمن يحاول أن يستغل نفوذه !! وكما نري .. كل يوم تتفجر في مصر مشكلة تتعلق بارتفاع أسعار بعض السلع واختفائها.. من الخبز الي اللحوم الي السكر الي الطماطم .. من المتضرر ؟ بالطبع ..رجل الشارع العادي الذي قد لايزيد مرتبه عن 700أو 800 جنيه ولديه ابن أو اكثر ملطوع علي رصيف البطالة منذ سنوات ! لو كيلو اللحمة بعشرين جنيها فلن يقدر عليه ..فماذا لو كان الكيلو ب60 جنيها ..! اذن لمن يشكو ؟؟ للوزير ! لكن الوزير رجل أعمال ..ويفترض أن يكون في قفص الاتهام ..حيث لديه مزارع ومعالف وشركات لاستيراد اللحوم ..ولأنه المسئول والتاجر ..فقد لايكون فقط متهما بسوء الادارة ..بل أيضا بسوء النية .. فمن وجهة نظر الشارع أن القرارات طالما صانعها رجل أعمال ..فهدفها مزيد من الأرصدة في حسابات .. رجال الأعمال !مما يمثل تهديدا آخر للسلام الاجتماعي لايقل في خطورته عن تهديد الفتنة الطائفية ..! وفي الغالب تتشكل الحكومات من الطبقة المتوسطة.. تلك الطبقة التي تعد معمل تفريخ النخبة من المثقفين والحكام ..وتطلعاتها ترتبط جينيا بتطلعات الوطن ولاتتقاطع معها .. لذا يبدو حديث المفكر طارق حجي - خلال حوار تليفزيوني - عن اهمية تشكيل الحكومة من الطبقة المتوسطة منطقيا جدا ومتوافقا مع حركة التاريخ .. الأمر الذي يتطلب أولا اعادة النظر في تجربة زواج رجل الأعمال من السلطة ..حتي لاينتهي الأمر بتحويل أفريكاسيا الي شركة مساهمة! kasspi2005.yahoo.com