إذا كان تاريخ الفن لم يذكر لنا ولو مرة واحدة أن عملا فنيا انتصر مرة للظلم أمام الشر. فإن هذا التاريخ لم يذكر لنا ولا اعتقد أنه سيذكر أن عملا فنيا ما دعا إلي الفساد لمواجهة الفساد، وحلل الجريمة لمواجهة ظلم الآخرين. ضجت قاعة العرض بالتصفيق عندما شعر الجمهور أن حورية قررت الاستيلاء علي مبلغ المليون دولار التي كان ينوي سيد تسليمها إلي الشرطة. وسيد هذا هو بطل فيلم (ليلة ساخنة( ويعمل سائقا لسيارة أجرة، وحورية كانت تعمل في الأيام الخوالي غانية ثم خادمة ،ثم حبيبة سيد المقبلة. المصادفة وحدها هي التي تجمع بين سيد وحورية، ومع لقائهما تتجمع خيوط وحوادث متفرقة، ولأن وراء كل حادثة درامية لابد من وجود هدف ما، فإن الهدف من وراء هذه الحوادث هو إدانة الإرهاب، وادانة المؤسسة الاجتماعية وإدانة بعض السلبيات المشينة في الجهاز الصحي، وفي جهاز الشرطة. عادة الأفلام، وعادة الدراما ،وعادة الفن عموماً أن يتم الانتصار في النهاية للقيم الاصيلة التي تعارف عليها البشر منذ بدء الخليقة، ولم نر ولو مرة واحدة أية رواية أو اية مسرحية او اية قصيدة، انتصرت لقيم الشر، أو وقفت إلي جانب الفساد. وهذا مايعرف بمبدأ العدالة الشعرية في الدراما، فإذا كان الواقع احيانا ينصر الظالم علي المظلوم، فإن الفن لايجب ابدا ان يفعل ذلك. حورية في نهاية فيلم (ليلة ساخنة) وبهدوء شديد تحلل لنفسها الاستيلاء علي مبلغ المليون دولارالذي وجده سائق التاكسي في سيارته. وهذا المبلغ نعرف أنه ملك لرجل أعمال جمعه بطريقة غير مشروعه كعمولة لتهريب الشباب للانضمام لبعض الجماعات الاصولية التي تمارس الارهاب. القيمة التي يكرسها الفيلم اذن من خلال شخصية البطلة، والتي جسدتها لبلبة باقتدار هي أنه علي كل واحدة لها ظروف حورية أن تستولي علي أي مبلغ من المال، وليس مهما معرفة مصدر هذا المال . (لنا أن نراجع هنا مبدأ الاستحلال الذي تؤمن به بعض الجماعات الاصولية المتشددة). وفي فيلم (سارق الفرح) نجد أن بطل الفيلم أيضا، وحتي يستطيع الزواج من حبيبته أحلام يقوم ببعض الأعمال الإجرامية التي تخضع لطائلة القانون، أما حبيبته فإنها لا تتواني عن المشاركة في ليلة حمراء، وهي تقول إن أحداً لم يلمسها! وذلك من أجل الحصول علي مائة جنيه لإكمال ثمن الشبكة.. حتي لا يضيع حبيبها ،ولاحظ هنا المبرر اللاأخلاقي لسلوك الحبيب والحبيبة لتحقيق غاية أخلاقية!. وفي رائعة اوليفر ستون ( ولدوا ليقتلوا) يستطيع ابطاله في النهاية الهروب من العدالة بعد ارتكاب عدد لا بأس به من الجرائم التي تقع أيضا تحت طائلة القانون، وبرغم سيناريو الفيلم - وبرغم حجم الجرائم التي ارتكبها ابطاله وبرغم حمامات الدم التي كانت تحفل بها مشاهد الفيلم، فإن اي مشاهد لايجد حرجا من التعاطف مع هؤلاء الأبطال. (ليلة ساخنة ) و( سارق الفرح ) و(ولدوا ليقتلوا) ليست فقط هي الأفلام التي تختلط فيها أوراق القيم، وإنما هي جزء من مجموعة من الأفلام سواء العربية أوالاجنبية اصبحت تكرس للعنف ،وللسلوك العدواني، وللقيم التي يرفضها أي مجتمع مهما كانت طبيعته. المشكلة لم تعد فقط في طبيعة القيم التي أصبحت بعض الأفلام ترسخها دون أن تعي (مصيبة ان كانت تعي، ( وانما أيضا في النماذج البطولية نفسها. فبطلة فيلم (كشف المستور) غانية حكومية كانت تعمل لحساب المخابرات، ومطلوب التعاطف معها لأنها تقف ضد الحكومة والإرهاب! وبطلة ( ليلة ساخنة ) غانية محترفة تتوب، لكنها لا تتردد في العودة إلي مهنتها القديمة عند النداء الأول ومطلوب منا أن نتعاطف معها لأنها ضد الحكومة وضد الفساد! ،وبطل( سارق الفرح) يقضي أغلب وقته في مطاردة الحبيبة لوسي، وفي الدفاع عن الغانية عبلة كامل ويعمل قوادا لها، ومطلوب في النهاية أن نتعاطف معه.وبطل فيلم ( الشياطين ) يشبع ضحاياه قتلا ومطلوب منا ان نسامحه ونعذره! طبعا ندرك ونعرف تماما أن أخلاقية الفن قد تختلف أحيانا عن أخلاقية الواقع، كما أن الفن ليس ملزما أن يقدم لنا دروسا في أخلاقية الواقع، كما لا يغيب عنا أن سمات البطولة قد تغيرت، ولم يعد عندنا هؤلاء الابطال النبلاء بالمفهوم الأرسطي ومن المسموح أن يكون البطل إنسانا عاديا في الحياة أوحتي غير عادي علي هامش الحياة كما في بعض الافلام السابقة. نحن اذن لا نعترض علي سمات الابطال المعاصرين، ولا علي ضرورة بحث السينما الدائم عن حكايات مختلفة تكسر دوائر التكرار والرتابة، وتعالج حالة الترهل التي اصابت الموضوع السينمائي في أفلام بلاد العرب، فقط نتوقف أمام مفاهيم القيم التي يجري تكريسها من خلال أبطال السينما الجدد. وعن طريق هذه المفاهيم يتم توصيل رسالة مفادها: إذا كانت قيم المجتمع متناقضة، وغير عادلة ،فعلي كل فرد أن يضع قيمته الخاصة، حتي ولو كانت مشبعة بالجريمة والعنف، والدم، ولنا أن نتصور مدي الخداع الذي تضعنا فيه السينما أحيانا عن طريق مواضيعها، وأبطالها، تحت مبررات تبعد كثيرا عن جوهر رسالة الفن. وإذا كان تاريخ الفن لم يذكر لنا ولو مرة واحدة أن عملا فنيا انتصر مرة للظلم أمام الشر. فإن هذا التاريخ لم يذكر لنا ولا اعتقد أنه سيذكر أن عملا فنيا ما دعا إلي الفساد لمواجهة الفساد، وحلل الجريمة لمواجهة ظلم الآخرين.