ترددت كثيرا فى كتابة هذا المقال لاعتبارات عدة، اولها اني انتمي الي هذا الجهاز العريق، وثانيها اني لم اعهد قط فى رحلة مهنية قاربت العقود الثلاثة أيا من المؤسسات او الاجهزة قد آل علي نفسه وأرسي قواعد الطهر الذاتي او علم الجديد من منتسبيه اصول الوضوء المهني، اعتقادا من القائمين عليه بأنهم رسل مجندة لخدمة مؤسساتهم، وانهم ملائكة منزلة أرسلت لإنقاذ تلك الاجهزة من فساد طال امده، وكتب له الفناء يوم كلفوا هم بمهامهم وتبوأوا مقاعدهم، والحقيقة ان تلك المفاهيم جميعها امور لاتكاد تهب اول نسمة من واقع وحقيقة الا وتجدها اضغاث احلام، ثالث هذه الاسباب وليس بآخرها أني لا أري لا فى المنظور القريب ولا البعيد خطة اذاعية مدروسة يتلقف اول خيطها اولئك المخلصون للوطن ولمهنتهم ولإذاعتهم، تظهر فيها مهنيتهم وامكاناتهم ويتضح من خلالها منتجهم الاعلامي للمتلقي بصورة مباشرة وواضحة، اما الامر الذي فرض علي تناول هذا الموضوع فهو استكمال الحديث عن ادوات الجيل الرابع من الحروب ضمن سلسلة مقالات خصصتها لهذا الموضوع، فبعد ان تحدثنا فى المقال السابق عن الاعلام الرسمي كان من المحتم علينا ان نخص الاذاعة بمقال مفرود حسب ما أتيح لنا من مساحة للنشر، اذ ان الاذاعة هي وسيلة الاعلام الوحيدة التي تمارس عملها بمنأي كامل وتام عن تلك المنافسة، فالواقع يقول انه ليس ثمة من منافسة بين الاذاعة والتليفزيون، ولا بين الاذاعة والاعلام الالكتروني، ولا بين الاذاعة ومايدور فى مدينة الانتاج الاعلامي، ولم تظهر فى الافق المصري اذاعة تنافس الاذاعة الرسمية، والمؤكد بل الذي يجب ان يتم تأكيده غير مرة ان الاذاعة المصرية بها من الكوادر المؤهلة ثقافيا وعلميا مالم يتوفر لوسيلة اعلامية اخري، الدليل علي ذلك عدد الزملاء الحاصلين علي درجات علمية عليا والذين هم فى طريقهم لذلك، وعدد الموهوبين فى مجالات ثقافية مختلفة ويحصدون الجوائز تباعا، لكن يبدو ان القائمين علي هذا القطاع المهم العريق لايقيمون لذلك وزنا، عملا بالمثل القائل زامر الحي لايطربه. وحتي لاننجرف الي تشخيص الاوجاع الاذاعية المؤلمة والكثيرة، لابد ان نقول بعلو الصوت وأوضحه ان الاذاعة اصبحت الآن غائبة عن الوعي الجمعي للمواطنين بعد ان غيبت بفعل المسئولين الذين يسلمون المسئولية لبعضهم البعض، فبدت الاذاعة كما مهملا غير مدرج علي جدول اهتمامهم، فالحديث عن الاعلام الرسمي - قدحا او مدحا - يقصد به التليفزيون المصري فقط، وربما صب ذلك فى مصلحة الاذاعة التي لم تنل ما ناله التليفزيون من جام الغضب الجماهيري والسلطوي ابان الثورة ومابعدها، ولم تزل الاذاعة بمنأي عن ذلك، فلم تدرج ضمن ادوات هذا الجيل من الحروب، ولم توجه لها سهام الاتهام بتعكير صفو السلم الاجتماعي او تأجيج الصراعات بين قوي الطيف السياسي، فضلا عن التحريض علي العنف او العمل علي تقسيم البلاد او حتي ظهور من ينتمي الي الطابور الخامس من العاملين فى الاعلام، كل هذا ليس محسوبا للاذاعة لأنها احسنت ظن المستمع فيها وكانت علي مستوي التحدي والقدرة علي مغالبة السلبي منه، ولكنه حدث لانها لاتنال القسط الوافر من اهتمام رجل الشارع فضلا عن المسئولين، الامر الذي يحتم علي القائمين علي العمل الاذاعي بسرعة استغلاله وتقديم خطة اذاعية واعية علمية ومدروسة يشارك فيها كل الطيف الاذاعي تستهدف افاقة المجتمع علي عمل مهني يستلهم روح الوطن ومستقبله ويعمل علي تكريس وتثبيت القواعد المجتمعية والحفاظ عليها، ولن يتأتي ذلك الا اذا تخلي المسئولون عن الاذاعة عن فكر الادارة الفردية، واستراق السمع لأشباه الاذاعيين، وفتح الابواب لكثيري الطرق والتردد، وتمكين خفاف الظل ومحترفي اطلاق النكات من رقاب أسيادهم، وتصدير الآذان الصم والعيون العمي للمخلصين والموهوبين، والاستخفاف بكل صاحب تجربة وفكر، واختلاق الصراعات البينية غير المبررة، والزج بالعناصر المتنافرة وغير المتكافئة في ذات العمل، والتعامل مع باقي البشر بعلياء وكبر وفوقية عملا بما درج عليه العامة من : انت مش عارف انت بتكلم مين.؟، اتمني ان يقرأ هذا المقال بتجرد شديد، وان يفتح المسئولون عن الاعلام الرسمي - وعلي رأسهم وزيرة الاعلام ورئيس اتحاد الاذاعة والتليفزيون ورئيس قطاع الاذاعة- قلوبهم للنقد الذاتي، فأهل مكة ادري بشعابها، ربما نصل جميعا الي قلب وعقل المستمع بسلام.