"لدينا مهماتنا الخاصة في تطوير العلاقات الروسية الأمريكية"، هكذا صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تعليقه الأخير على قضية "إدوارد سنودين" موظف المخابرات الأمريكية المطلوب في الولاياتالمتحدة لتسريب تفاصيل بشأن برامج مراقبة وتجسس، وكان الأخير قد تقدم مؤخراً بطلب للجوء المؤقت في روسيا. وجاءت هذه التصريحات تأكيداً من الكرملين الروسي على أن العلاقات الثنائية الروسية الأمريكية أهم بكثير من المشاحنات بين الأجهزة الاستخباراتية، مشدداً على أن عدم تقبل أي نشاط من شأنه أن يلحق الضرر بالعلاقات بين روسياوالولاياتالمتحدة. براجماتية حية إذاً، فالواضح أن العلاقات الروسية الأمريكية تمر بفصل جديد من تغليب المصالح على الخلافات الفرعية إحياءً لمبادئ البراجماتية، خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة، لا سيما وأن مسار العلاقات الروسية اتخذ منحى جديداً فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وهو ما جاء على لسان الرئيس بوتين عندما قال: إن روسيا دولة مستقلة ولها سياسة خارجية مستقلة، مضيفاً: "حذرنا سنودن من أن أي نشاط له قد يلحق الضرر بالعلاقات الروسية الأمريكية، هو أمر غير مقبول بالنسبة لنا". وعلى الجانب الآخر، أعلن البيت الأبيض في ذات الوقت أن واشنطن تعول على أن يكون الوضع بشأن سنودن غير منعكس على العلاقات الثنائية بين الولاياتالمتحدةوروسيا، وقال المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض جاي كارني في مؤتمر صحفي تعليقاً علي هذا الموضوع: "نحن لا نريد أن تغدو هذه القصة ضربة لعلاقاتنا الثنائية مع روسيا". وكانت الخارجية الأمريكية قد أعلنت في وقت سابق أن واشنطن ستواصل جهودها الرامية إلى دفع موسكو لتسليم سنودن إلى الولاياتالمتحدة، حيث قال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية باتريك فينتريل: "إن الإدارة الأمريكية تعمل مع الحكومة الروسية بهذا الشأن بما فيه على مستوى الرئيس أوباما، مؤكداً أن واشنطن ستواصل جهودها في هذا الاتجاه، وقال فينتريل: إنه لا توجد اتفاقية ترحيل المتهمين بين روسياوالولاياتالمتحدة، إلا أنه أعرب عن أمله في أن تسلم روسيا سنودن على أساس التعاون السابق بين البلدين، مشيراً إلى وجود أسس لذلك التعاون. حظر السلاح وقد شهدت العلاقات بين القوتين دفئاً على مستوى التعاون العسكري، وخاصة فيما يخص حظر انتشار الأسلحة الإستراتيجية، ففي أكتوبر 1980 بدأ الوفدان الروسي والأمريكي المباحثات حول الحد من الأسلحة النووية في أوروبا، لكن الولاياتالمتحدة بدأت عام 1983 في نشر صواريخ جديدة في أوروبا، الأمر الذي حمل الوفد السوفيتي على مغادرة جنيف، وبدأت المرحلة التالية للمباحثات في موضوع الأسلحة النووية والفضائية في شهر مارس بجنيف، وفي عام 1991 تم إعداد وعقد معاهدة التقليص والحد من الأسلحة الإستراتيجية الهجومية "ستارت 1". وفي عام 1987 تم توقيع معاهدة القضاء على الصواريخ السوفيتية والأمريكية المتوسطة والقصيرة المدى، وتعهد الجانبان بموجب هذه المعاهدة بتصفية صواريخهما المتوسطة والقصيرة المدى، وعدم امتلاك تلك الصواريخ مستقبلاً، وقد نفذ الجانبان التزاماتهما في هذه الخطة بالفعل في المواعيد المحددة، علماً بأن الجانب السوفيتي قام بتصفية 1846 مجمعاً صاروخياً، أما الجانب الأمريكي فقام بتصفية 846 مجمعاً صاروخياً. وفي عام 1993 وقع الجانبان على معاهدة التقليص الإضافي والحد من الأسلحة الإستراتيجية الهجومية (ستارت -2)، إضافة إلى عدد من الاتفاقات الروسية الأمريكية التي تخص قضايا خفض الخطر النووي، وبينها اتفاقية الإبلاغ عن إطلاق الصواريخ البالستية العابرة للقارات الأرضية، والصواريخ البالستية المرابطة في الغواصات عام 1988، واتفاقية إنشاء مراكز التخفيض من الخطر النووي عام 1987 ، واتفاقية التعاون في مجال الجرد والرقابة على المواد النووية والوقاية منها عام 1999، والتي تخص مسائل المعاملة الآمنة للمواد الإشعاعية، وإلى جانب الاتفاقيات الثنائية الروسية الأمريكية هناك عدد من المعاهدات المتعددة الجوانب في مجال الحد من السلاح النووي، وبينها معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية الموقعة عام 1996. وفي عام 1988 ضمت البنية التنظيمة الخاصة باتفاقيات نزع السلاح مؤسسات جديدة، بينها مركزا التخفيض من الخطر النووي الوطنيان في كل من موسكووواشنطن، ومؤسسات الرقابة على تنفيذ الاتفاقيات، وتحقيق زيارات تفقدية. اللجوء السياسي وتجدر الإشارة إلى أن سنودين قد قدم خلال الأيام القليلة الماضية طلباً باللجوء السياسي إلى روسيا، حيث إنه عالق في منطقة الترانزيت بمطار شيرميتيفو الروسي منذ أن قدم من هونج كونج في 23 يونيو الماضي، حيث وجهت إليه بلاده تهماً بتسريب معلومات أمريكية حساسة تتعلق بأنشطة تجسس تقوم بها وكالة الأمن القومي الأمريكي. وقد اختلف الخبراء حول تعامل "بوتين" مع قضية "سنودين"، حيث رفض فيودور لوكيانوف، رئيس مجلس الشئون الخارجية وسياسة الدفاع، ورئيس تحرير"روسيا في السياسة العالمية"، فكرة تسليم روسيا سنودين للولايات المتحدةالأمريكية، موضحاً: "سيكون ذلك مشيناً في أعين العالم؛ لأن كثيراً من الناس معجبون به، وعلى الرغم من كل شيء، سنودين لم يتورط في التجسس، هو فقط كشف عن معلومات مهمة"، معتبراً تسليمه ضربة لصورة موسكو في الخارج، ولكنه اعترض في الوقت ذاته على تأمين حق اللجوء السياسي له، قائلاً: "من شأن ذلك أن يؤثر فعلاً في العلاقات الروسية الأمريكية". كما رفض غريغوري فيفر، مراسل سابق في موسكو، ومساهم في الإذاعة الوطنية العامة، تسليم سنودين، قائلاً: "من المؤكد أنه سيُحكم عليه بأربعين سنة سجن على الأقل ليصبح عبرة لمن قد يفكِّر في أن يشي بالأسرار، ولا أظن أن هذه القضية ستؤثر بشكل كبير في العلاقات الثنائية الروسية - الأمريكية. فهذه العلاقات بالأساس ضعيفة". وعلى الجانب الآخر، رأى روس ويتشر، أستاذ في قانون الإعلام في جامعة تينيسي لتقنية الصحافة، ضرورة تسليمه لأمريكا، معلقاً: "لقد قدَّم سنودين معلومات مهمة للشعب الأمريكي عن تعدِّي الحكومة على خصوصية الشعب، لكنه، أيضاً، قام بخرق القانون، يجب على روسيا تسليم سنودين. وإذا لم تقم بتسليمه، سيُنظر إلى روسيا في الولاياتالمتحدة على أنها آوت شخصاً هارباً من العدالة". تحييد سنودين وحول مستقبل العلاقات بين موسكووواشنطن، يُنتظر أن يتم تحييد قضية سنودين، وهذا ما يفسره تصريحات الرئيس الروسي في وقت تقدم فيه سنودين رسمياً بطلب اللجوء لموسكو، وكأن بوتين أراد أن يؤكد للجانب الأمريكي رغبة روسيا في المحافظة على الأجواء الهادئة نسبياً مع واشنطن في الفترة الأخيرة رغم قضية سنودين، خاصة وأن الرئيس الأمريكي باراك أوباما أعلن من قبل أنه لن يلغي زيارته لموسكو أو مشاركته بقمة العشرين في مدينة سانت بطرسبرج سبتمبر القادم. وفي المقابل رغم التسليم بأن الولاياتالمتحدةوروسيا قد أجرت ترتيباً على أولويات المصالح بينهما، إلا أنه ليس هناك تعديلاً على مستوى الأهداف الإستراتيجية الأساسية لتبقى السمة المسيطرة على مسار العلاقات بين القوتين هي التنافس على النفوذ في مناطق كثيرة من العالم أهمها الشرق الأوسط، وتباين المواقف بخصوص الأزمة السورية في الوقت الراهن، فضلاً عن التنافس وسط أسيا وأمريكا اللاتينية. وبين ذلك وذاك، فإن ما يمكن قوله في النهاية هو أن مستقبل العلاقات الأمريكية الروسية ستسيطر عليه حالة "الانتعاش المرهون"، أي أن العلاقات بين البلدين قد تشهد تحسناً مطرداً وجوهرياً، لكن بالنظر إلى مستوى التساوم والحكمة بينهما.