بحثاً عن لقمة العيش؛ فضلوا المغامرة بحياتهم على متن قوارب الموت في اتجاه الهجرة إلى الدول الغربية، بعد أن سُدت أمامهم كل أبواب الأمل في بلدانهم الأصلية، وهو ما أفضى إلى وفاة حوالي أكثر من ستة عشر ألف مهاجر جراء هذه الهجرات. وقد أثير هذا الموضوع، بعدما قُدرت الهجرة السرية ما بين (10- 15%) من عدد المهاجرين في العالم، والبالغ حسب التقديرات الأخيرة للأمم المتحدة حوالي (180) مليون شخص، كما قدرت أعدادهم في دول الاتحاد الأوروبي فقط بنحو (1.5) مليون فرد (بحسب منظمة الهجرة الدولية)، الأمر الذي يتطلب معه معرفة تلك الظاهرة من مختلف جوانبها، بمعنى العودة إلى سياقها التاريخي، والتطرق إلى مراحل تطور الهجرة (وخاصة المغاربة إلى أوروبا)، وإلى العناصر القابعة وراء تبني الشق السري (غير القانوني)، للهجرة على حساب شقها الشرعي (القانوني). ظاهرة عالمية وتَعني الهجرة في أبسط معانيها، حركة الانتقال - فردياً كان أم جماعياً - من موقع إلى آخر؛ بحثاً عن وضع أفضل اجتماعياً أو اقتصادياً أو دينيا أو سياسياً، ويتم ذلك من خلال الوسائل القانونية الشرعية وبالاتفاق بين الدول وبعضها البعض، ولكنها تتحول إلى غير شرعية، إذا ما تمت بشكل سري أو غير قانوني أو غير نظامي. وتعد الهجرة السرية أو غير القانونية، ظاهرة عالمية موجودة في الدول المتقدمة ك"الولاياتالمتحدة" و"الاتحاد الأوروبي" أو في الدول النامية ب"أسيا" كدول الخليج ودول المشرق العربي، وفي أمريكا اللاتينية حيث أصبحت بعض الدول ك"الأرجنتين" و"فنزويلا" و"المكسيك" تشكل قبلة لمهاجرين قادمين من دول مجاورة، وفي أفريقيا وخاصة في بعض الدول مثل "ساحل العاج" و"أفريقيا الجنوبية" و"نيجيريا". أسباب متنوعة وترجع ظاهرة الهجرة العربية عموماً والمغربية على وجه الخصوص نحو البلدان الأوروبية، لا سيما "فرنسا"، و"إسبانيا" و"إيطاليا"، إلى عدة أسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية. فيلاحظ الكثيرون حجم التفاوت والتباين في المستوى الاقتصادي بين الدول الطاردة والدول المستقبلة، ويُرجع المحللون هذا التباين، إلى تذبذب وتيرة التنمية في هذه البلاد التي ما زالت تعتمد أساساً في اقتصادياتها على المواد الأولية والقطاعات البدائية، على عكس الدول الكبرى المستقبلة التي تتبع نهج الصناعة والتجارة. ويمثل التباين في الأجور بين الدول النامية والمتقدمة، أحد العوامل الأساسية المشجعة للهجرة إلى الخارج، حيث يفوق الحد الأدنى للأجور - هناك - 3 إلى 5 مرات المستوى الموجود في دول شمال أفريقيا. ومن هنا يمكن القول، أن السبب الرئيس للهجرة من الدول النامية، وخاصة من دول جنوب المتوسط (مصر ودول المغرب العربي) إلى أوروبا سواء بشكل نظامي أو غير نظامي، يكمن في الظروف الاقتصادية في تلك الدول. وخير دليل على ذلك ما أشار إليه المؤتمر الوزاري الثاني (5+5) الذي انعقد في "الرباط" في أكتوبر عام 2003 بشأن الهجرة، والذي أكد فيه على أن الأسباب الاقتصادية تقف بشكل عام خلف الهجرة. سياق تاريخي إلى جانب العوامل الاقتصادية، توجد عوامل ثقافية واجتماعية وسياسية، تتمثل في تدهور أوضاع حقوق الإنسان خاصة الحق في العمل اللائق والحق في الحياة الكريمة والآمنة، وتعد دافعاً نحو الرغبة في الهجرة إلى البلاد التي تتمتع بتلك الحقوق والقيم. وهناك من يشير إلى وجود عوامل تاريخية، حيث تعود الأفواج الأولى للمهاجرين المغاربة نحو أوروبا إلى الحرب العالمية الأولى، وخاصة عندما دعت "فرنسا" القوة الاستعمارية المواطنين المغاربة إلى الانضمام إلى جيشها، وإعادة تشغيل مصانعها المشلولة؛ بفعل التعبئة العسكرية الفرنسية حينذاك. فدفعت متطلبات الدفاع الوطني والاقتصاد الحربي ل"فرنسا" كقوة دولية آنذاك، إلى توظيف أكثر من 500 ألف شخص من دول المغرب العربي الثلاث (الجزائر، والمغرب وتونس)، وتحويلهم إلى "فرنسا" خلال سنوات الحرب. وتكرر الأمر نفسه مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، لكن بشكل أكثر كثافة وتطور، فقد أتاح الاستعمار الزخم الأولي للهجرة الحديثة، وشجع حركة تنقل الأفراد من وإلى أوروبا، وأدى الطلب المتزايد على العمالة في البداية إلى الهجرة الداخلية (من الريف إلى المدينة)، قبل أن تتحول إلى هجرة دولية جماعية (عابرة للحدود)، فساعد ازدهار الاقتصاد الأوروبي على جذب الأيدي العاملة من الضفة الجنوبية للمتوسط. ومن ثم كانت الهجرة - بصفة عامة - من الدول النامية والمغربية بصفة خاصة؛ انعكاساً للعلاقة الاستعمارية المباشرة، فضلاً عن رغبة تلك الدول في استيراد تلك العمالة، بهدف الحفاظ على النهضة والثورة الصناعية الأوربية. طابور خامس ومن ناحية أخرى، ساهمت التحولات الكبرى التي شاهدها العالم مع نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة، في تغير مضمون العديد من المفاهيم السائدة في العلاقات الدولية، من بينها مفهوم الأمن الذي لم يعد يقتصر على المدلول التقليدي العسكري، بل تعداه إلى المدلول الاجتماعي (الأمن الاجتماعي)، وظهور ما يعرف بالأخطار الجديدة التي أضحت تشكل تحدياً لأمن المجتمعات السياسية الدولية. وانتابت الدول الأوروبية عدد من الهواجس جراء أمواج الهجرة الوافدة إليها، ويرجع المراقبون تلك الهواجس إلى ما يعرف لديه بالتصادم بين الهويات الحضارية المتنافسة، والتي تعد من أهم هواجس الألفية الثالثة، ومن ثم رأت الدول الأوروبية بأن هذه الهجرة تمثل خطراً على أمنها، فهي تهدد هويتها الحضارية والثقافية وتخلق بداخلها طابوراً خامساً من وجهة نظرهم. خطر إسلامي وفي هذا الصدد، يعتقد الباحث الأمريكي "صامويل هانتينجتون"، بأن الصدام الحضاري في شكله الحاد والعنيف سيكون نتاجاً للحيوية السكانية في الجنوب مقابل الركود الديموجرافي في الغرب، مركزاً على الخطر الداهم الذي تشكله الديموجرافية الزاحفة للعالم الإسلامي - باعتبارها أحد المصادر الرئيسة للنزاعات الدولية في العالم الحديث - على القيم الغربية. أي أن الدول الأوربية، تتخوف من هاجس الإسلام والمسلمين، وهو ما يتم الترويج له في بعض الدوائر السياسية والإعلامية وحتى الأكاديمية الأوروبية، حيث ينظرون إلى المنطقة العربية والإسلامية على أنها سريعة التكاثر وغير قادرة على التحكم في مواليدها، إلى درجة دفعت البعض إلى الحديث عن نموذج زواجي إسلامي يقوم على مبدأ "إنجاب أكبر عدد من الأطفال". وهو ما جعل تلك الدول – مؤخراً - تتجه إلى تشديد قوانينها المنظمة للهجرة بشكل غير مسبوق، فوصل الأمر إلى إلغاء حق التجمع العائلي، وحصر الهجرة في يد عاملة من دول تربطها بأوروبا اتفاقيات محددة بالعمالة في قطاعات معينة، فضلاً عن اتجاه السياسات الأوروبية إلى ابتداع قوانين تُنظم هجرة موسمية مختارة ومن فئات اجتماعية معينة وبمقاييس يحددها سوق العمل وشروط العودة. ولعل تصريحات المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" في لقاء القمة، الذي جمعها في "ستراسبورغ" بالرئيس الفرنسي "نيكولاس ساركوزي" عام (2011)، خير دليل على ذلك التوجه. تباين أوروبي وأكدت "ميركل" على أهمية وضرورة التعجيل بتوحيد النظام الضريبي الأوروبي وحماية النظام المالي في منطقة اليورو، وضرورة توحيد نظام الشغل وإعادة هيكلته والاتفاق على سياسات موحدة في مجال الهجرة، وسن قانون موحد ينظم حركتها إلى دول الوحدة الأوروبية، ويحمي سوق الشغل، ويعطي الأفضلية لليد العاملة الداخلية لدول الوحدة. ومما سبق نجد أن هناك موقفين متعارضين بشأن موضوع الهجرة: الأول مؤيد، يقر بحاجة أوروبا إلى المهاجرين؛ لتغطية عجزها الديموجرافي وتلبية متطلبات اقتصادها، مشيراً إلى أن ممارسة العنصرية ضد الجاليات الأجنبية من شأنها أن تؤدي إلى ردود أفعال متطرفة، والثاني معارض (يتزعمه التيار اليميني)، ويرى بأن المهاجرين من أصول إسلامية يمثلون تهديداً للقيم الغربية، مؤكداً على استحالة إدماجهم في المجتمعات الأوروبية، معتبراً بأن عددهم المتزايد يشكل قنبلة ديموجرافية مؤقتة ستنفجر يوماً ما على المجتمع الأوروبي وستكون لها عواقب وخيمة. معاول إرهابية وعن الهجرة المغربية على الخصوص، يشير المحللون إلى أن مخاوف الدول الأوروبية من هذه الهجرة تنجلي بشكل كبير في الأسباب التالية: فمع انتشار عمليات الإرهاب، ظن الأوربيون بأن المهاجرين المغاربة قد يتحولون في أية لحظة إلى معاول إرهابية تزرع الرعب والفزع في المجتمعات الغربية التي تتمتع بالأمن والاستقرار (الربط بين الهجرة والإرهاب)، ولا سيما مع تركز الأقليات المهاجرة في ضواحي المدن الأوروبية وتشكيلها ما يعرف بمدن الأكواخ (Bidonvilles) التي تمثل مصدرًا للفوضى، وانتشار الأوبئة، فضلاً عن تمسك أغلب تلك الجاليات المغربية بهويتها الثقافية والدينية، وما تمثله من خطر على القيم الغربية، لا سيما في ظل انتشار ظاهرة الزواج المختلط، الأمر الذي دفع بالتيار اليميني التمسك بمبدأ استحالة اندماج المغاربة في الثقافة الأوروبية، والمطالبة بإعادتهم إلى أوطانهم الأصلية، باعتبارهم يشكلون نقطة التماس بين منظومتين ثقافيتين متباينتين. وأخيراً تزايدت المخاوف الأوروبية من الهجرة المغربية من التأثير السلبي على سوق العمل، من خلال المنافسة الشديدة بين العمالة المغاربية الرخيصة والعمالة الأوربية المترفعة - من باب الاستعلاء - عن ممارسة ما يعرف بالوظائف "القذرة"، مما يؤدي إلى اتساع حجم البطالة في صفوف المجتمع الأوروبي. ولعل قرار السلطات الفرنسية في يوليو 2011، القاضي بتقليص قائمة المهن المسموح شغلها من طرف المهاجرين الشرعيين من غير الأوربيين بنسبة 50 %، حيث تراجعت من 30 مهنة إلى 15 فقط، بهدف تقليص عدد العمالة الأجنبية وعلى رأسها المغاربة، والمقدرة ب 20 ألف سنوياً إلى النصف، خير دليل على ذلك. ومما لا شك فيه، أن أسباب الهجرة الجماعية غير المنظمة وزيادة أعداد الشباب التي تقبل عليها معظم الدول النامية، ترجع إلى أسباب عديدة أهمها تناقص فرص العمل فيها، وزيادة حدة الفوارق بينها وبين الدول الغنية، الأمر الذي أدى إلى اندفاع مزيد من الشباب للسعي وراء تحقيق حياة أفضل عبر طرق ووسائل مختلفة. وعلى الرغم من إقرار الدراسات الأكاديمية بمسألة العجز الديمجرافي لأوروبا وسيرها البطيء (النمو السكاني السلبي، وانحدار معدل الخصوبة، وتقلص شريحة الشباب) في ظل غياب الحلول العملية، مما يعني حاجة الاقتصاد الأوروبي المتنامي للأيدي العاملة الأجنبية، غير أن الخطاب السياسي الأوروبي، غالباً ما يلتزم الصمت إزاء هذه الحقائق، بل إن الأمر دفع ببعض الدوائر السياسية والإعلامية إلى القول بأن الاقتصاديات الأوروبية ليست في حاجة إلى عمالة أجنبية غير مؤهلة، وأنه يمكن وضع خيار "الهجرة صفر" (Immigration zero) حيز التنفيذ، واللجوء عند الضرورة إلى العمالة الشرقية في إطار أوروبا الموسعة لسد العجز الديموجرافي. بيد أن الواقع أثبت فشل تطبيق الخيار الأول ومحدودية الخيار الثاني، مما يعني أن الهجرة المغربية ستظل - على الأقل خلال العقود القليلة القادمة - المصدر الرئيس للعمالة الأجنبية في أوروبا.