سادت في الآونة الأخيرة حالة من التهويل والترهيب الدولي بسبب قضية تجارة الأسلحة التقليدية والتخويف من آثارها الخطيرة على حقوق الإنسان والسلام الدولي، لكن في ظل اعتبارها قضية تاريخية ليست وليدة اللحظة، ما الذي دفع المجتمع الدولي إلى السعي إلى اتفاقية دولية لتنظيم تجارة الأسلحة في هذا الحين وبعد مرور كل هذا الوقت؟ يأتي ذلك بعدما جدّد الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون دعوته إلى المجتمع الدولي للتوصل إلى معاهدة شاملة لتنظيم تجارة الأسلحة في العالم قبيل المؤتمر الذي تعقده المنظمة الأسبوع المقبل بحضور ممثلين عن 193 دولة، في مسعى للتوصل إلى هذه المعاهدة، مشيراً إلى ثقته في تخطي الدول الأعضاء في الأممالمتحدة خلافاتها والوصول لاتفاق بشأن هذه المعاهدة الرئيسية، على حد تعبيره.
ويزداد نمو تجارة الأسلحة لارتباطها باقتصاديات الدول الكبرى، حيث يقدر حجم تجارة الأسلحة دولياً بحوالي 100 مليار دولار أمريكي في عام 2012 وحده، وذلك بعد أن كان لا يتجاوز 70 مليار دولار قبل بضع سنوات.
تجاوب دولي وأبدت فرنسا تجاوبها مع دعوة الأمين العام بعد تصريحات الناطق باسم وزارة الشؤون الخارجية برنار فاليرو، أن بلاده هدفها تنظيم تجارة الأسلحة والتحكم بها ومكافحة التهريب والفساد في عمليات النقل، في إطار الموافقة على معاهدة تجارة الأسلحة التي تشمل الحيز الأوسع للعتاد، لاسيما الأسلحة الخفيفة والصغيرة وكذلك الذخائر، مضيفاً أنه يوجه دعوة فرنسا لكل الدول المسئولة للتفكير بحسن نية بالتسويات المتاحة أمامهم للتوصل إلى اتفاق.
فيما أكد وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أن الولاياتالمتحدة تؤيد التوصل إلى معاهدة تنظيم تجارة الأسلحة وتحقق تقدماً في الأمن العالمي وتحترم السيادة الوطنية وتجارة الأسلحة المشروعة، نافياً تأييد واشنطن أي معاهدة غير متسقة مع القانون الأمريكي وحقوق المواطنين الأمريكيين بموجب الدستور.
ومن جانبها، أعربت الصين (دائمة العضوية في مجلس الأمن) في بيان لوزارة الخارجية، عن دعمها للمجتمع الدولي فيما يتعلق باتخاذ الاجراءات الضرورية لتنظيم التجارة الدولية في الأسلحة ومكافحة النقل غير القانوني للأسلحة وتهريبها، وتعهدت بدراسة كافة القضايا ذات الصلة مع الأطراف المعنية في إطار الأممالمتحدة بطريقة أكثر مسؤولية وأكثر جدية.
وقال الفريد دي زاياس، الخبير المستقل المعني بدعم نظام دولي ديمقراطي ومتساوٍ من قبل خلال المفاوضات الأممية الأخيرة في يوليو الماضي: "إن الوقت ملائم لمعاهدة دولية فعالة وقابلة للتطبيق للحد من تنظيم تجارة السلاح".
وأوضح الخبير بشؤون الأسلحة بمنظمة العفو الدولية، برايان وود، أن تدفق الأسلحة غير الخاضعة للتنظيم له أضرار متعددة في تدمير حياة الملايين، وإبادة مجتمعات بأسرها، مشيراً إلى إمكانية أن تصبح للمفاوضات المزمع إجراؤها هذا الشهر في مقر الأممالمتحدة بنيويورك "مفاوضات تاريخية".
وبدورهم حث عددٌ من الخبراء من إفريقيا والصين والاتحاد الأوروبي والمتخصصين في ملف حظر الانتشار النووي والأسلحة بوجه عام، الدولَ الأعضاء بمنظمة الأممالمتحدة على ضرورة الإسراع في إصدار المعاهدة المبرمة لتنظيم تجارة الأسلحة الدولية وإصلاح نقاط الضعف في المشروع الخاص بها.
ومن ناحية أخرى أطلقت عدد من المنظمات الدولية متمثلة في منظمة العفو الدولية و"مؤسسة أوكسفام الدولية" وشبكة التحرك الدولي بخصوص الأسلحة الصغيرة "إيانسا"، حملة الحد من الأسلحة للمساعدة على وقف عمليات نقل الأسلحة اللامسؤولة على الصعيد العالمي.
عوائق مستمرة يذكر أنه قبل ذلك، دارت مفاوضات شاقة في الأممالمتحدة منذ عام 2006 وآخرها مناقشات الثلاثين يوماً من شهر يوليو 2012 الماضي حضرتها 170 دولة من أجل إقرار هذه المعاهدة، إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل بعد انضمام الولاياتالمتحدة للصين وروسيا في الدعوة إلى تأجيل المحادثات، حيث إن الدول الثلاث تعدّ من أكبر مصدّري السلاح الرئيسيين في العالم، الأمر الذي أثار حفيظة العديد من الفاعلين الدوليين وغير الدوليين، وذلك لأهميتها للحفاظ على السلام الدولي في ظل بيئة أمنية دولية مضطربة.
ومن ناحية أخرى، تلعب زيادة حدة الصراعات بين الدول وتنامي دور الجماعات المسلحة وتهديداتها لنظم الحكم دوراً في تنامي مشتريات السلاح التقليدي، خاصة بواسطة الفاعلين من غير الدول، مما يعرقل المساعي الدولية للتوصل للمعاهدة، حيث يتم توجيه صفقات الأسلحة لتغذية الصراع ودعم قوة أطرافه، وامتداد مجاله في العديد من الدول، وارتباط ذلك بجماعات الضغط ومصالح الشركات متعددة الجنسيات والمحتكرة لإنتاج السلاح، ومساندة الدول الكبري لها.
وقد تكون الدول الغربية الصناعية السبب في إعاقة هذه الاتفاقية من خلف الستار لخدمة مصالحها، أو بمعنى أقرب زيادة مبيعاتها من السلاح؛ لأن تجارة السلاح ترتبط بشبكة سرية من العملاء والصفقات السرية التي لا يتم الكشف عن مزيد منها.
وتسيطر الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن على سوق صادرات السلاح الدولي (والمكون من الولاياتالمتحدة، وروسيا، والصين، وفرنسا، وبريطانيا)، بالإضافة إلى ألمانيا، بنسبة 80% من جميع صادرات الأسلحة في العالم التي تقدر بحوالي 70 مليار دولار سنوياً، وتضاعف نصيب الولاياتالمتحدة من تجارة السلاح بنحو ثلاثة أمثال، وارتفع من 40% إلى 87% من تجارة السلاح الدولي عام 2011.
مخاطر وضحايا ولعل الهدف المعلن من وراء هذه المعاهدة يظهر في عدة جوانب؛ من أهمها تأكيد وسهولة الجهود الدولية في مجال التعامل مع الأسلحة التقليدية عن غيرها من أسلحة الدمار الشامل النووية أو الكيماوية أو البيويولوجية أو حتى الجرثومية، وذلك لسهولة التعامل مع السلاح التقليدي في النقل والاستخدام.
وتمثل أيضاً حجم المخاطر الدولية من تجارة الأسلحة التقليدية دافعاً للوصول لهذه الاتفاقية، فحوالي 750.000 شخص يقتلون سنوياً بالأسلحة _على حسب ما ذكرته تقارير الأممالمتحدة_ ويتزايد ضحايا العنف المسلح المنتشر في مناطق الصراع داخل الدول وبينها، خاصة في الشرق الأوسط.
وفي جانب آخر، تستهدف المعاهدة إعادة توجيه النفقات إلى مشروعات تنموية حقيقية بدلاً من شراء السلاح لإنعاش الاقتصاد العالمي.
مستقبل المعاهدة وقد يكون إبرام المعاهدة لتنظيم تجارة الأسلحة التقليدية التي لا تقل خطورة عن أسلحة الدمار الشامل، تفعيلاً لعمليات الرقابة والتفتيش على هذه التجارة بين الدول، وهو ما يؤدي إلى تقليص عملية شراء المعدات والأسلحة العسكرية وتقليل عمليات الفساد المرتبطة بها.
ويرتبط مستقبل تلك المعاهدة بموقف الدول الكبري منها والتي تحتفظ بفاعليتها من خلال التحكم في صادرات السلاح العالمي (كما ذكرنا) حرصاً على ضمان مكاسبها المادية، حتى وإن كان ذلك على حساب الأرواح وحقوق الإنسان والأمن والسلم الدوليين.
إلا أنه في النهاية يمكن القول إن تلك المعاهدة، إن لم تراجع بنودها بما يتفق مع اقتصاديات وبرامج الدول النامية التي تكون في الغالب الدافع الوحيد لفاتورة مشتريات السلاح، فإن ذلك من شأنه إرهاق ميزانيات تلك الدول - زيادة على ما تعانيه – بالنفقات الباهظة لمشترياتها من السلاح الذي يخدم فقط الدول الصناعية الكبرى المصدرة لصفقات السلاح، مما يعني صورة جديدة من صور العولمة الرأسمالية العالمية أو ما يطلق عليها "الرأسمالية الأنجلوساكسونية الغربية".