قصة الارتباط السوداني المصري التاريخية القديمة الضاربة الجذور في اقليم وادي النيل امر لايحتاج الي جهد كبير ومعلوم كيف رسخ في اذهان بعض اخوتنا المصريين ولعقود طويلة قصة التبعية المطلقة للاراضي السودانية الي خريطة الدولة المصرية وذلك امر شائك وبالغ التعقيد احتارت فيه افهام الباحثين والمؤرخين منذ زمان بعيد واصبح موضوع خلاف بين مصر الملكية والقوي السياسية المصرية والبريطانيين قبل الثورة خاصة حزب الوفد الذي ظل متمكسا بفرضية تبعية السودان الي الدولة المصرية. واصبح هذا الموضوع يخرج الي العلن بين الحين والاخر في خلافات مصر مع البريطانيين حتي بعد الثورة وسقوط الحكم الملكي ومغادرة الملك فاروق الاراضي المصرية بغير رجعة ولكن استقلال السودان الذي تم اعلانه صبيحة الاول من يناير عام 1956 انهي عمليا تلك الفترة في ظل واقع جديد اعترفت فيه مصر الثورة علي مضض بذلك الواقع واعتبر الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وهو محق ان الاستقلال الذي اعلنته الخرطوم لن يؤثر علي اي مستوي علي مستقبل العلاقة بين الشعبين في مصر والسودان وهو امر اثبتته المواقف والايام وحادثات الليالي .
ولم تؤثر فيه حتي المرارات التي خلفتها اختلافات السياسة وتباين المواقف ويتذكر الجميع العبارة الواعية والخالدة للزعيم الخالد في رحاب ربه الرئيس عبد الناصر وهو يقاتل في جبهات عريضة من اجلال اكمال استقلال بلاده ومن اجل قضية العرب والمسلمين المركزية في فلسطين عندما قال اذا سقطت القاهرة سنعمل علي استعادتها من الخرطوم ومضي زمن عبد الناصر الذي احبه اهل السودان حبا اسطوريا وصادقا من القلب الي القلب يوم ان استقبلوه وهو الزعيم المهزوم اذا جاز التعبير استقبال الفاتحين والابطال المنتصرين في استقبال اسطوري لايقل مهابة عن مشهد جنازته التي ليس لها مثيل في تاريخ البشرية المعاصر وذلك اثناء حضوره قمة الخرطوم الشهيرة عام 1967 ومصالحته التاريخية مع صنو روحه في الصدق والمواقف والطباع.
وان تباينت المواقف ورغم الاختلاف ورفيقه في الوفاء و حب امة العرب والمسلمين خالد الذكر المغفور له جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز والحديث يطول عن علاقات مصر والسودان في زمن عبد الناصر بحلوها ومرها واتي زمن السادات الذي اختلف جذريا عن زمن عبد الناصر واتخذت العلاقات السودانية المصرية بعدا اخر وتحولت الي مايشبه الحلف العسكري الاستراتيجي علي قاعدة ميثاق التكامل السياسي والاقتصادي بين البلدين في زمن النميري والسادات, التكامل الذي كانت له انجازات كبيرة علي صعيد الخدمات والتبادل التجاري والتدفق البشري الكبير بين البلدين واستيعاب اعداد ضخمة من الطلاب السودانيين في الجامعات والمعاهد المصرية ومعاملتهم معاملة الطلاب المصريين ويكفي ان التنقل بين البلدين في تلك الايام كان يتم عن طريق البطاقات والوثيقة المعروفة ببطاقة وادي النيل.
اما علي صعيد الحلف الاستراتيجي فقد اندمج البلدين في الاستراتيجية الامريكيةوالغربية المناهضة للشيوعية الدولية ايام الحرب الباردة وكان الحلف السوداني المصري موجه بالوكالة ضد الحلف الليبي الاثيوبي مع اليمن الشمالي المعروف بمحور عدن الموالي للشيوعية الدولية في تلك الايام وحقبة الثمانينات وكانت القوات السودانية المصرية تقوم بعمليات و تدريبات مشتركة علي الصعيدين الامني والعسكري بمساعدات غربية .
وكثيرا ما شاهد الناس طائرة الرصد الشهيرة والمبهرة بحسابات تلك الايام والمعروفة باسم طائرة الاوكس وهي تعبر سماء الخرطوم الي حدود السودان الشرقية مع اثيوبيا او الغربية مع ليبيا وانتهت تلك الفترة باغتيال السادات وذهاب نظام النميري الي حاله ولكنه ظل محتفظا بعلاقة حسنة مع بديل السادات ونظام مبارك ولكن سرعان ماتباعدت المسافات بينهم بسبب توجهات النميري ووقوعه في شراك جماعة الاخوان المسلمين التي استغلت عملية المصالحة مع نظام نميري والتي كانت بدورها احد استحقاقات الحرب الباردة.
واقامت مشروع دولتها الموازية داخل نظام نميري الذي تحول الي حاكم شرفي رغم سطوته وشخصيته العسكرية في ظل السيطرة الاخوانية الباطينة علي اقتصاد الدولة والكثير من مفاصلها الحيوية ثم حدث ماحدث وسقط نظام نميري الذي اصبح ضيفا علي مصر مبارك في ابريل 1985 التي استقبلته وتجاهلت كل مطالب الشارع السوداني والقوي السياسية السودانية بتسليمه مما ادي الي حدوث ازمه طويلة المدي بين القوي السياسية السودانية الرئيسية وحزب الامة وحكومة الصادق المهدي اول رئيس منتخب بعد سقوط النميري وبين النظام المصري فاقمت منها وشعللت نيرانها الجبهة القومية الاسلامية السودانية بدهاء منقطع النظير .
في الوقت الذي كانت فيه كانت تستعد للانقضاض علي حكومة الصادق المهدي والانقلاب عليه عبر انقلاب الترابي والبشير المعروف في ذلك الحين ودخلت خرطوم المهدي وقاهرة مبارك في حرب استنزاف اعلامية ولكنها وللامانة والتاريخ كانت معركة نظيفة الي حد كبير وخالية من الاسفاف والبذاءات التي ميزت بعض فترات الخلاف السوداني المصري اللاحقة.
وابتلع نظام مبارك الطعم السوداني الاخواني في اطار رد فعل متعجل وغير مدروس وتورط في دعم الانقلاب العسكري علي حكومة الصادق المهدي ظنا منه انه انقلاب تقليدي عادي مثل بقية الانقلابات التي تشهدها المنطقة العربية ولم يدري انه انقلاب عقائدي من تدبير حركة الاخوان المسلمين السودانية ولكن سرعان ما استوعب الامر وصحح موقفه وتعمد فتح مصر امام الموجات الاولي من المعارضة السودانية التي تدفقت علي مصر بعد ذلك التاريخ من كل صوب وحدب منذ مطلع التسعينات .
وشكلت ازعاجا خطيرا لحكومة الخرطوم بعد ان اتخذت من القاهرة قيادة سياسية مركزية لها مستفيدة من زخم مصر الاعلامي والسياسي وبلغ الخلاف ذروته بين القاهرةوالخرطوم بعد غزو العراق دولة الكويت ووقوف الخرطوم مع بغداد ومعروف ايضا ان القاهرة وقفت في المعسكر الاخر ومع الشرعية الكويتية وتبنت الموقف العربي والخليجي المدعوم دوليا من امريكا والغرب بينما انعزلت الخرطوم عربيا ودوليا مما فاقم ازمتها في مستقبل الايام وقبل ذلك اتهمت الخرطوم رسميا بتدبير وتمويل ورعاية محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في العملية الشهيرة في العاصمة الاثيوبية اديس ابابا وفي ذلك الوقت كانت المعارضة السودانية في قمتها .
وكان لها وجود عسكري في جنوب السودان والحدود السودانية الشرقية مع دولة ارتيريا بينما كانت مصر تكتفي بالدعم السياسي واستضافة المعارضة السودانية ولكن التحول الاكبر في مسار العلاقات بين القاهرةوالخرطوم حدث مع محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في العاصمة الاثيوبية في فترة التسعينات والهجوم المباشر علي موكبه الذي انتهي بفشل الهجوم ونجاح فرقة الحراسة المرافقة للرئيس المصري بقتل عدد من المهاجمين فماذا حدث بعد ذلك وكيف كانت ردود الفعل في مصر الرسمية والشارع المصري وفي اوساط العسكريين المصريين واروقة الجيش المصري ونتحدث ايضا عن ردود الفعل في دوائر المعارضة السودانية وقيادتها السياسية المركزية في قاهرة تلك الايام هذا ما سنتعرض له في الحلقة الثانية من هذا المقال.
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أو القائمين عليه