تكشف الغارة البربرية التى جرت وقائعها بالأسكندرية قبل ثلاثة أيام عن غباء منقطع النظير, وحماقة تتحلى بهما السلطات المحلية بالأسكندرية , وجهل أصيل ومتأصل لدى المسؤلين عن هذه المجزرة المعرفية والثقافية , وعدم وعى بالمكان الذى يتولون مسؤليتة , وقيمته ومكانته وتاريخه .. ذلك أن هذا "الجزء" من شارع "النبى دانيال" الذى كان مسرحا للغارة أو "موقعة الكتاب" , هو بمثابة "سور الأزبكية" الأسكندرانى .. والنبىى دانيال "الشارع" هو من أكثر الشوارع حيوية في الإسكندرية بسبب وجود المحال التجارية التي تبيع كل شيء على جانبيه بدءا من الملابس والاحذية , والاجهزة الكهربائية, وإنتهاء بالكتب فى الجزء الصغير منه الممتد من تقاطعه مع شارع الملك فؤاد , حيث توجد مكتبة لمؤسسة الأهرام , وحتى مشارف وحدود محطة مصر. ولمن لايعرف .. فإن شارع "النبى دانيال" هو أحد أهم وأشهر شوارع مدينة الإسكندرية التاريخية، يمتد من محطة الرمل حتي محطة مصر، يرجع ميلاده إلي بداية بناء المدينة ذاتها , وبحسب موسوعة "ويكيبيديا" الحرة , فإن "النبى دانيال" هو أحد أنبياء بني إسرائيل ربما يعود تاريخه إلي القرن السادس قبل الميلاد، ولذلك يحمل المعبد اليهودي الموجود بالشارع أسم هذا النبي ..وعندما أمر الإسكندر الأكبر ببناء الإسكندرية , فقد تم البناء وفقا ل"الشكل الشبكي" أو "رقعة الشطرنج"، حيث كانت المدينة مقسمة إلي شارعين رئيسيين أحدهما طولي والآخر عرضي، يخلق تقاطعهما ميدانا كبيرا في المنتصف، ويُعتَقد أن شارع النبي دانيال جزء من الشارع الرئيسي الطولي الذي كان يمتد من شمال المدينة إلي جنوبها .
هذا "الشارع" تنبعث منه رائحة التاريخ , وتتجلى فيه شاخصة للعيون , "سماحة" المصريين عموما والشعب السكندرى خصوصا , وهو يجسد الإعتدال والعمق الحضارى فى الشخصية المصرية , قبل النكبة التى تعيشها البلاد الآن , بصعود المتطرفين والمتشديين على كل لون , وإحتلالهم للمشهد , تعميقاً للطائفية , وتغييباً لكل ماهو جميل فينا, من قيم وصفات إنسانية يتميز بها شعبنا عبر التاريخ .. ففى بداية الشارع , يوجد مسجد النبي دانيال الذى يضم ضريحا على عمق خمسة أمتار يُرَجَح أنه لأحد شيوخ المذهب الشافعى ,وهو العالم العراقى محمد بن دانيال الموصلى ،القادم للأسكندرية فى القرن الثامن الميلادى , وعلى بعد أمتار منه , يقع "المعبد اليهودي" ,والمركز الثقافي الفرنسي الذي أنشيء عام 1886, وعلى الجانب الآخر من الشارع توجد الكنيسة المرقسية أقدم كنيسة في مصر وأفريقيا والتي بناها القديس مرقس في القرن الأول الميلادي عام 43 م وتوجد بها رأسه , وفى الجزء الأخير منه القريب من محطة مصر ,يقع مسرح الغارة البربرية التى جرت على الكتب ..
وهذا الجزء هو عبارة عن سوق شعبى صغير للكتب , فيه الكتب الجامعية التى لطالما ساعدت على مر السنين الكثيرين من الطلاب أبناء محدودى الدخل بجامعة الأسكندرية , بل وتلاميذ المدارس بالكتب الدراسية الخارجية , مقابل مبالغ زهيدة لاتُقارن , بأثمان الكتب الجديدة , وأيما كانت هواياتك القرائية , وغاياتك المعرفية , عربية كانت أو أجنبية , فأنك سوف تجد فى هذا الجزء من شارع النبى دانيال مُبتغاك من الكتب العربية والأجنبية , سواء كانت كتب تراثية , أو أدبية أو دواوين شعر أو رويات وقصص , بكافة تنوعاتها , أومراجع علمية فى كافة فروع العلم , فضلا عن مؤلفات يندر وجودها من الأربعينات والخمسينيات , بل ومجلات ومطبوعات نادرة .
إن هؤلاء الباعة للكتب يمثلون الجانب المضئ و الجميل من معدن هذا الشعب ,فيهم النقاء والطيبة والحفاظ على المبادئ , أنهم أكثر ثورية من النخب الفاسدة والفاشية التى أفرزتها ثورة 25 يناير, فهم يناضلون طوال سنوات عمرهم فى سبيل التنوير والتثقيف بتوفير بضاعتهم الثمينة لمحدودى الدخل , إن هؤلاء الباعة يجسدون قيم التحضر والسماحة والوعى , وأياً كانت درجة التعلم للواحد منهم , فكم من مثقف ,لايملك مؤهلا عالياً , لكنه يعلو بقيمه وثقافتة على كثير من المتعلمين وحملة الشهادات العليا , وقد عشت أحلى سنوات عمرى بالأسكندرية فى السبعينات والثمانيينات , وكنت ولازلت حتى اليوم عاشقاً ومدمناً لهذا الشارع , إدماناً مرضياً أعترف وأفخر به , بحيث كنت أترجل فيه ذهابا وإيابا ,ولازلت كذلك حين تواتينى الفرصة للتواجد بالأسكندرية ولو لساعات , وأتوقف كثيرا عند هؤلاء الباعة , أتفرس وجوههم الطيبة , التى تعكس بملامحها أصالة المصريين وسماحة "الأسكندرانية" , وروحهم المرحة الجميلة , وشهامتهم التى تجعل الواحد منهم إذا ما سألته عن شارع ,أو عنوان لاتعرفه , يكون على استعداد أن يترك مصالحه الشخصية و محل عمله , أوبضاعته وتجارته كى يدلك على طريقك ويكاد يذهب معك إلى مقصدك حتى لاتتوه .. وهكذا حال الأسكندرانية جميعاً أولاد بلد إلا فيما ندُرَ .
إن أى بائع للكتب , كان يمكنه أن يكسب أضعاف ما يكسبه من عائد بيعها , لو أنه أتجه إلى أى أدوات أخرى مما يبيعها الباعة الجائلين , لكنهم متحضرين , يحبون الكتاب ويعشقون مهنتهم , ومنهم من كان مناضلا يساريا فى شبابه , ولم يعرف التمويل ولا تاجر بمبادئه ,ولا تكَّسب من المعارضة والثورة مثل الكثيرين , بل أن البائع منهم تجده يتواصل معك وأن تبحث بعينيك فى الكتب المرصوصة , سائلا لك عما تبحث , وما أن يعرف الموضوع أو التخصص الذى تهتم به ,حتى يبادرك بما لديه من كتب تغطى هذا المجال , وكأنه قد سبق له قراءة هذه الكتب .
أن سور الأزبكية الأسكندرانى , الذى تعرض للغارة الغاشمة التى تعبر عن أسوأ مافينا , ساهم فى تربية أجيال وتعليمهم , وإنارة عقولهم بقروش قليلة حين كانت القروش عُملة سارية بلا قيمة , وبأسعار زهيدة بمعايير أيامنا هذه , وعن شخصى الضعيف فأنا واحد ممن يدينون ل "شارع النبى دانيال" فى كثير مما تعلمت وقرأت , ولطالما حصلت على مئات الكتب , كنت أشتريها بقروشى القليلة من هذا السوق .. ومن هنا فأننى أُقَّبل رأس كل بائع للكتب سواء أضير من تلك الغارة المدفوعة بحماقة السلطة وظلام العقول , أونجا ممن نجاهم الله , وأعتذر لهم جميعا بالأصالة عن نفسى وعن كل من يشاطرنى الدَّينَ لهذا السوق الشعبى التعليمى و التنويرى والتثقيفى فى زمن تعلو فيه قامات الجُهَّال, ويريدون بجهالتهم إطفاء كل مشعل للتنوير.