محافظ المنيا: ندعم أي مصنع يقدم منتجا تصديريا عالي الجودة يحمل اسم مصر    حزب الله يشن هجمات صاروخية على عدد من مواقع الاحتلال    زيلينسكي: لم أحصل على إذن لاستخدام أسلحة بعيدة المدى ضد روسيا    رئيس الوزراء يتفقد مجمع مصانع شركة إيفا فارما للصناعات الدوائية    سان جيرمان يفتقد حكيمي ودوناروما وأسينسيو في مواجهة ريمس بالدوري الفرنسي    تشيلسي يفوز بالثلاثية على وست هام للدوري الإنجليزي    الأمن يواصل حملاته على تجار المخدرات والأسلحة النارية فى أسوان ودمياط    الإسكندرية السينمائي يعلن تشكيل لجنة تحكيم مسابقة شباب مصر في دورته ال40    رئيس الوزراء يتفقد مصنع شركة "المهن الطبية MUP" | صور    رابط الحصول على نتيجة تنسيق الثانوية الأزهرية 2024 بالدرجات فور إعلانها عبر الموقع الرسمي    مبادرات منتدى شباب العالم.. دعم شامل لتمكين الشباب وريادة الأعمال    استعدادا للعام الدراسي الجديد، الانتهاء من إنشاء 3 مدارس في قنا    لمواجهة السرقات.. "الكهرباء" ومجموعة "الصين الجنوبية" تبحثان التعاون في خفض الفقد وسيارات الطوارئ    70 جنيها زيادة في سعر جرام الذهب منذ خفض الفائدة الأمريكية    جهود صندوق مكافحة الإدمان في العلاج والتوعية×أسبوع (فيديو)    حلة محشي السبب.. خروج مصابي حالة التسمم بعد استقرار حالتهم الصحية بالفيوم    برلمانى: مبادرة بداية جديدة تعكس رؤية شاملة لتعزيز التنمية الاجتماعية    قصور الثقافة تختتم أسبوع «أهل مصر» لأطفال المحافظات الحدودية في مطروح    منتدى شباب العالم.. نموذج لتمكين الشباب المصري    محافظ المنوفية يتابع الموقف النهائي لملف تقنين أراضي أملاك الدولة    «جنايات الإسكندرية» تقضي بالسجن 5 سنوات لقاتل جاره بسبب «ركنة سيارة»    وزيرة التنمية المحلية: المحافظات مستمرة في تنظيم معارض «أهلًا مدارس» لتخفيف المعاناة عن كاهل الأسرة    مع قرب انتهاء فصل الصيف.. فنادق الغردقة ومرسى علم تستقبل آلاف السياح على متن 100 رحلة طيران    اليوم العالمي للسلام.. 4 أبراج فلكية تدعو للهدوء والسعادة منها الميزان والسرطان    اليوم ...المركز القومي للسينما يقيم نادي سينما مكتبة مصر العامة بالغردقة    هاني فرحات عن أنغام بحفل البحرين: كانت في قمة العطاء الفني    بعد إعلان مشاركته في "الجونة السينمائي".. فيلم "رفعت عيني للسما" ينافس بمهرجان شيكاغو    الهلال الأحمر العراقي يرسل شحنة من المساعدات الطبية والأدوية إلى لبنان جوًا    بطاقة 900 مليون قرص سنويًا.. رئيس الوزراء يتفقد مصنع "أسترازينيكا مصر"    بداية جديدة لبناء الإنسان.. فحص 475 من كبار السن وذوي الهمم بمنازلهم في الشرقية    حزب الله يعلن استهداف القاعدة الأساسية للدفاع الجوي الصاروخي التابع لقيادة المنطقة الشمالية في إسرائيل بصواريخ الكاتيوشا    هانسي فليك يفتح النار على الاتحاد الأوروبي    في اليوم العالمي للسلام.. جوتيريش: مسلسل البؤس الإنساني يجب أن يتوقف    وزير الصحة يؤكد حرص مصر على التعاون مع الهند في مجال تقنيات إنتاج اللقاحات والأمصال والأدوية والأجهزة الطبية    مبادرة بداية جديدة.. مكتبة مصر العامة بدمياط تطلق "اتعلم اتنور" لمحو الأمية    إخلاء سبيل المفصول من الطريقة التيجانية المتهم بالتحرش بسيدة بكفالة مالية    أم تحضر مع ابنتها بنفس مدرستها بكفر الشيخ بعد تخرجها منها ب21 سنة    استشهاد 5 عاملين بوزارة الصحة الفلسطينية وإصابة آخرين في قطاع غزة    اسكواش - نهائي مصري خالص في منافسات السيدات والرجال ببطولة فرنسا المفتوحة    واتكينز ينهي مخاوف إيمري أمام ولفرهامبتون    توجيهات عاجلة من مدبولي ورسائل طمأنة من الصحة.. ما قصة حالات التسمم في أسوان؟    داعية إسلامي: يوضح حكم التوسل بالأنبياء والأولياء والصالحين وطلب المدد منهم    عالم بوزارة الأوقاف يوجه نصائح للطلاب والمعلمين مع بدء العام الدراسي الجديد    يوفنتوس يجهز عرضًا لحسم صفقة هجومية قوية في يناير    تحرير 458 مخالفة «عدم ارتداء الخوذة» وسحب 1421 رخصة بسبب «الملصق الإلكتروني»    زاهي حواس: مصر مليئة بالاكتشافات الأثرية وحركة الأفروسنتريك تسعى لتشويه الحقائق    باندا ونينجا وبالونات.. توزيع حلوى وهدايا على التلاميذ بكفر الشيخ- صور    هل الشاي يقي من الإصابة بألزهايمر؟.. دراسة توضح    حكاية بطولة استثنائية تجمع بين الأهلي والعين الإماراتي في «إنتركونتيننتال»    18 عالما بجامعة قناة السويس في قائمة «ستانفورد» لأفضل 2% من علماء العالم (أسماء)    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024    «اعرف واجبك من أول يوم».. الواجبات المنزلية والتقييمات الأسبوعية ل رابعة ابتدائي 2024 (تفاصيل)    وزير خارجية لبنان: لا يمكن السماح لإسرائيل الاستمرار في الإفلات من العقاب    مدحت العدل يوجه رسالة لجماهير الزمالك.. ماذا قال؟    مريم متسابقة ب«كاستنج»: زوجي دعمني للسفر إلى القاهرة لتحقيق حلمي في التمثيل    «الإفتاء» توضح كيفية التخلص من الوسواس أثناء أداء الصلاة    "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. أذكار تصفي الذهن وتحسن الحالة النفسية    ضحايا جدد.. النيابة تستمع لأقوال سيدتين يتهمن "التيجاني" بالتحرش بهن في "الزاوية"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دراسة في التنظيمات المسلحة في الحركة الإسلامية .. جدلية النشأة والتأثير مصر نموذجاً (33)
نشر في محيط يوم 21 - 07 - 2012


مركز " محيط " للدراسات السياسية والإستراتيجية
إعداد سمير العركي


تأثير التنظيمات المسلحة على الحركة الإسلامية

لم تكُن الحركة الإسلامية لسنوات مضت قد التفتت إلى أنواع من الفقهِ كانت مهجورة .. مهجورة التدريس .. ومهجورة التطبيق .. رغم كونها تُمثِل ضوابط هامة لفهم النص الشرعي ... مثل فقه المصلحة والمفسدة، وفقه النوازل ..، وفقه المالآت .. والأخير يُمثل ضابطاً هاماً في استشراف المُستقبل وتوقع النتائج المُترتبة على العمل ومن ثم الحُكم عليه إما إمضاء ... وإما إلغاء ...

ولقد تفطن فقهاءنا الأوائل إلى مثل هذا النوع من أنواع الفقه فيقول الشاطبى – رحمه الله –( ) : " النظر في مآلات الأفعال مُعتبر مقصود شرعاً سواءً كانت الأفعال موافقة أو مُخالفة، وذلك أن المُجتهد لا يحكُم على فعل من الأفعال الصادرة عن المُكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظرهِ إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ .. ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع بهِ، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تُساوي المصلحة أو تزيد عليها ... فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أُطلِق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تُساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمُجتهد صعب المورد، إلا أنهُ عذب المذاق، "محمود الغب"، جار على مقاصد الشريعة ..." ثم يسوق الشاطبي أدلته الشرعية والعقلية على صحة القاعدة التى صاغها.

وهذه قاعدة نفيسة أزعُم أنها لم تأخُذ حقها – فيما مضى على الأقل – في التطبيق وضبط تطبيق النص الشرعي.

وما قاله "الشاطبي" يُقرره أيضاً "ابن القيم" – رحمه الله – في إعلام المُوقعين عند حديثهِ عن الوسائل فذكر منها نوعين يفضيان إلى الحرام وهما :

• وسيلة موضوعة للمُباحِ يقصُد بها مُستخدمها التوصُل من خلالها للحرام كمن عقد البيع بقصد الربا أو تزوج بغرض التحليل، وهذه وسيلة يُحرم اللجوء إليها لما تؤدي إليه من المفسدة.
• وسيلة موضوعة للمُباحِ لم يُقصَد بها التوصُل إلى المفسدة ولكنها مفضية إليها غالباً ومفسدتها أرجح من مصلحتها ومثال ذلك سب آلهة المُشركين بين ظهرانيهم، وتزين المُتوفي عنها في زمن عدتها، وهذا النوع من الوسائل يمنع اللجوء إليه لما يؤول إليه من المفاسد.

ثم شرع "ابن القيم" بعد ذلك في سرد الأدلة المؤيدة لكلامه السابق. من هُنا نُقرر أن قاعدة "مآلات الأفعال" من القواعد الهامة التي أولاها الفُقهاء عناية بإحكام نصها، وسرد أدلتها ، والتنبيه عليها.

كانت هذه المُقدمة ضرورية للحُكم على أثر التنظيمات المُسلحة على الحركة الإسلامية نفسها وليس لمُجرد خروجها عن الإطار القانوني للدولة والذي يُحظر إنشاء ميليشات أو تنظيمات لها صبغة عسكرية، فمآل هذه التنظيمات والتكوينات يُعطينا صورة واضحة عن الآثار التي تركتها على الحركة الإسلامية مما يمنحنا الفُرصة بعد ذلك في الحُكم عليها وتقييمها.

أولاً : مُضاعفة حجم الضرر الواقع على الحركة :

هذا الشأن يعلمهُ كُل من هو معني بالعمل الإسلامي فشتان بين حجم الضرر الواقع قبل حمل السلاح وبعدهِ ولننظر إلى هذا الكلام النفيس الذي كتبه "سيد قطب" – وهُنا تكمُن المُفارقة – وهو يتحدث عن سبب كف القتال في مكة فيقول :

"ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد، في بيئة مُعينة، لقوم مُعينين، وسط ظروف مُعينة، ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبُر عليه عادة من الضيم على شخصهِ أو على من يلوذون بهِ، ليخلص من شخصهِ، ويتجرد من ذاتهِ، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به محور الحياة في نظرهِ ودافع الحركة في حياتهِ. وتربيتهِ كذلك على ضبط أعصابه، فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مُهيج، فيتم الإعتدال في طبيعتهِ وحركتهِ، وتربيته عل أن يتبع مُجتمعاً مُنظماً له قيادة يرجع إليها في كُل أمر من أمور حياته، ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره بهِ - مهما يكن مُخالفاً لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي، لإنشاء "المجتمع المُسلم" الخاضع لقيادة مُوجهة، المُترقي المُتحضر، غير الهمجي أو القبلي !".

"وربما كان ذلك أيضاً، لأن الدعوة السليمة كانت أشد أثراً وأنفذ، في مثل بيئة قريش، ذات العنجهية والشرف، والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه المرحلة - إلى زيادة العناد، وإلى نشأة عمليات دموية جديدة كثارات العرب المعروفة التي أثارت حروب داحس والغبراء، وحرب البسوس، أعواماً طويلة، تفانت فيها قبائل برُمتِها، وتكون هذه الثارات الجديدة مُرتبطة في أذهانِهم وذكرياتهِم بالإسلام، فلا تهدأ بعد ذلك أبداً، ويتحول الإسلام من دعوة ودين إلى عمليات ثأرية تنسى معها وجهتهُ الأساسية، وهو مبدئه، فلا تذكر أبداً !".

"وربما كان ذلك أيضاً، اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كُل بيت، فلم تكن هُناك سُلطة نظامية عامة، هي التي تُعذب المؤمنين وتفتنهم، إنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كُل فرد يُعذبونه ويفتنونه "ويؤدبونه "! ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كُل بيت . . ثم يُقال : هذا هو الإسلام ! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمُر بالكف عن القتال ! فقد كانت دعاية قُريش في الموسم. في أواسط العرب القادمين للحج والتجارة: إن مُحمداً يُفرق بين الوالد وولده، فوق تفريقه لقومه وعشيرته ! فكيف لو كان كذلك يأمُر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي . . في كُل بيت وفي كل محلة ؟".

"وربما كان ذلك أيضاً لما يعلمهُ الله من أن كثيرين من المُعاندين الذين يفتنون أوائل المُسلمين عن دينهم، ويعذبونهم، هُم بأنفسهم سيكونون جُند الإسلام المُخلص، بل من قادته . . ألم يكُن "عُمر بن الخطاب" من بين هؤلاء ؟!".

"وربما كان ذلك أيضاً، لأن النخوة العربية، في بيئة قبلية، من عاداتها أن تثور للمظلوم الذي يتحمل الأذى، ولا يتراجع! وبخاصة إذا كان واقعاً على كرام الناس فيهم... وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة - في هذه البيئة – ف"ابن الدغنة" لم يرض أن يترك "أبا بكر" - وهو رجل كريم - يُهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عاراً على العرب ! وعرض عليه جواره وحمايته . . وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار ل "بني هاشم" في شعب "أبي طالب"، بعد ما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة . . بينما في بيئة أُخرى من بيئات "الحضارة" القديمة التي مردت على الذل، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسُخرية والإحتقار من البيئة، وتعظيم المؤذي الظالم المُعتدي !".

"وربما كان ذلك أيضاً، لقلة عدد المسلمين حينذاك، وانحصارهم في مكة، حيثُ لم تبلُغ الدعوة إلى بقية الجزيرة أو بلغت أخبارها مُتناثرة، حيثُ كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف، ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك، وتنمحي الجماعة المُسلمة، ولم يقم في الأرض للإسلام نظام، ولا وجد لهُ كيان واقعي، وهو دين جاء ليكون منهاج حياة، وليكون نظاماً واقعياً عملياً للحياة"( ) إلخ...

هذا التصور القُطبي المُستمد من قراءة وقائع السيرة النبوية عرفهُ الأصوليون ب "المصلحة والمفسدة" فتحصيل المصالح كما يقول الشاطبي – رحمهُ الله - : أصل أصول الشريعة .. إذ أن الشريعة إنما نزلت لتحصيل مصالح العباد الدينية والدنيوية ودفع المفاسد عنهم.

هذه القاعدة الشرعية استخدمها قادة الجماعة الإسلامية المصرية كمدخل مهم للتحليل في عملية المُراجعات التي قاموا بها فقالوا يصفون حجم الضرر الذي وقع عليهم من جراء العمل المُسلح( ):
".. ولاشك أنهُ قد تحقق بعد هذه التجربة الطويلة أن هذه الدماء المُهدرة وهذه المعارك الطاحنة لم تجلب مصلحة تُذكر بل ترتب عليها عشرات المفاسد التي ينبغي لها أن تدرأ. فالدماء المُسالة والنفوس المُزهقة من أبناء دين واحد، فضلاً عن الأحقاد التي ملأت النفوس، هذه المُعتقلات التي تعج بالشباب. فكُل ذلك مفسدة عظيمة بل مفاسد لا شك ينبغي أن تكون لنا وقفة لوضع حد لها ودفع ما جلبته من مفاسد خاصة وأنهُ لم يتحقق من وراء ذلك أى مصلحة، فكيف والمصلحة غير موجودة أصلاً ؟".

ثانياً : الإنغلاق السياسى وعدم القراءة السليمة للواقع :

فالتنظيمات المُسلحة قادت الحركة الإسلامية إلى نوع من الإنغلاق السياسي نتيجة الإبتعاد عن المُشاركة الفعالة في المشهد السياسي والذي حرمها بدورهِ من القراءة الواعية والراشدة لكثير من مجريات الأمور مما أدى إلى إتخاذ العديد من القرارت التي ألحقت بالحركة ضرراً بالغاً تصادم مع التوجُه العام للكيان مما أدى إلى تحوُلهِ إلى قوة "إعاقة" بدلاً من كونها قوة "دافعة" كما أُريد لها وهُنا سأضرب مثالين يوضحان كيف تحولت التنظيمات المُسلحة في لحظة مُعينة إلى عبء شديد الوطأة على مُجمل الحركة.

المثال الأول : يرويه أ. محمود عبد الحليم رحمه الله ( ): فقد أورد جزءاً من خطاب ألقاه "صالح حرب" باشا رئيس جمعية الشُبان المسلمين بمناسبة عيد الجهاد الموافق 15/11/1949م وهو يتحدث عن الظروف الصعبة التي كان يمُر بها الشيخ "حسن البنا" عقب اغتيال "النُقراشي" وكيف أن الشيخ رحمه الله قام بكتابة بيان بعنوان "بيان للناس" استنكر فيه اغتيال "النُقراشي" ودعا شباب الإخوان إلى التزام الهدوء .. ويكمل "صالح حرب" باشا فيقول :

"واطمأن الشيخ على أنهُ بعد هذا البيان سوف يتغير الموقف، ويسود التفاهُم، وتتوالى الخطوات في سبيل تهدئة الخواطر وإقرار السلام، ولكن لسوء الطالع لم يمض يومان على صدور البيان حتى وقع حادث الشروع في نسف محكمة الإستئناف فجاءني الشيخ في حالة من الجزع والفزع لم يسبق أن رأيته عليها، وقد عقد لسانه، وجف ريقه، وملكه ألم كاد يفقد صوابه ... وأنا أقسم بعد أن شاهدت الشيخ المُرشد على تلك الحال إنهُ مُستحيل على مثله أن يدعو إلى الإجرام أو يأمر به أو يُشارك فيه، وظللت وقتاً أهدئ من روعهِ حتى سكن قليلاً واستطاع الكلام فقال : أرأيت هذا المفتون ماذا كان ينوي أن يفعل ؟ والله ما هذا الشقي مُسلماً ولا من الإخوان !! ولما خوطب الشيخ من الجهات الرسمية في هذا الحادث تبرأ من هذا الشاب واستنكر بشدة فعلته، وأظهر استعداده لأن ينشُر بياناَ آخر يُذيع فيه أن هذا المفتون وأمثاله ليسوا مسلمين ...".

ولكن لم يستطع "البنا" استكمال مسيرة الصُلح إذ بوغت الجميع بمقتله أمام دار الشبان المُسلمين بوسط القاهرة.

المثال الثاني .. حدث عام 1997م حين أطلق قادة الجماعة الإسلامية مُبادرتهم لوقف العُنف من داخل محبسهم انهاءً لسنوات طويلة من الإقتتال الداخلي، وكانوا كمن ألقى حجراً في الماء الراكد كما يقولون وبدأ الجميع يستعد لحل شامل يوقف هذا العُنف ويقضي عليه ويُساهم في حل كثير من الأزمات المُستحكمة وعلى رأسها أزمة المُعتقلين ولكن فوجىء الجميع بحادثة الأقصر الشهيرة والتي أودت كُل أمل لحل الأزمة، وعادت بها إلى المُربع رقم صفر من جديد وشكلت طعنة غادرة في ظهر قادة الجماعة ومُبادرتهم، ولنسمع إليهم وهُم يقولون بكُل مرارة وأسى ( ):

"وفى غمرة سعينا لشرح وجهة نظرنا لإخواننا مع تتابُع تداعيات هذه المُبادرة على الرأى العام فوجئنا بحادث الأقصر، وكانت صدمة لنا جميعاً إذ كان الحادث بما فيه من اعتداء على النساء والأطفال والتمثيل بهم غريباً على منهجنا وتفكيرنا وكان صدى هذا الحادث مُتفاوتاً فقد أعلنا تمسُكنا بمُبادرتنا رغم تسرُب شيء من الإحباط إلى نفوسنا ...".

هذان المثالان يوضحان كيف أن الإنغلاق على الذات وفُقدان القُدرة الصحيحة على قراءة الواقع يؤديان إلى عدم القُدرة على التناغُم والتناسُق مع السياسة العامة للحركة والذي من المُفترض أن تكون هذه التنظيمات جُزءاً فعالاً في تحقيق سياساته كما أريد من وراء إنشائها.

ثالثاً : عسكرة الدعوة فكراً وتنظيماً :

فقد أدى وجود التنظيمات السرية المُنغلقة إلى نوع من عسكرة الدعوة وما يستتبعها من تشوهات خطيرة على المُستوى الفكري والتنظيمي، فعلى المُستوى الفكري أدت العسكرة المُشار إليها إلى الآتي :

1- نشأة التشوهات الفكرية:

فمن أخطر الأشياء التي تنشأ عن العمل السري التشوهات الفكرية التي تنشأ عن الإنغلاق الفكري .. فالحوار العام واللقاءات العامة والمدارس العلمية ومُلاقاة العلماء والسماع منهم تضبط الفكر وتُصحح المسار المُنحرف وتكشف الأخطاء وتُصححها بالمُناقشة والحوار المُستمر الذي يثري العقل ويُمحص الفكر ويُطور الإنسان إلى الأفضل والأحسن ويوسِع أُفقهِ.. وحتى عندما تفشل في التصحيح فإنها تكشف هذا الخلل للآخرين وتعزل المُنحرف.

- أما اقتصار الحوار على المجموعات التنظيمية الصغيرة - الخلية - وتدارسها هكذا مع نفسها.. ونقاشها منفصلة عن المجموع وعن العُلماء بأنواعها.. فإنه يجعل لتلك المجموعة أو الخلية رأياً خاصاً قد يُخالف رأي المجموع مهما احتطنا لذلك.. ويتبلور بعيداً عن رأي القيادة وعينها وعين المُجتمع.

- بل قد يتحول هذا الرأي إلي موقف يختلف عن مواقف المجموع وسياسة الجماعة.. فتتحول هذه الخلية إلي جيب فكري مُتمرد.. لها فكرها ومواقفها التي تنبُع منها.. خاصة بين الشباب حديث السن قليل العلم سريع التقلُب شديد الحماسة.. الذي لا يعرف من الألوان إلا الأبيض والأسود.. ويتعامل بحدة مع ما يراه خطأ.. وبصورة يصعُب ضبطها أو التحكُم فيها.

2- ضعف الولاء العام للمُسلمين والمُجتمع :

تعمُق السرية ونظام الخلايا الصغيرة روح انتماء الأفراد لهذه الخلايا وقيادتها الجزئية بما تُمارسه هذه القيادات من التفرُد بإدارة شئون المجموعة في حاجاتها حفاظاً على السرية.

وهذا يضعف بمرور الوقت من الولاء العام للمُسلمين وللمُجتمع المُسلم وللجماعة بعمومها لصالح هذا الإنتماء الجُزئي والفرعي.

وهكذا وعند أول خلاف بين تلك القيادة الفرعية والجزئية وبين القيادة العامة أو المُجتمع يحدُث التمزُق والإنشطار.

إذ يتحول الإنتماء للمجموعة الصغيرة وللمسئول الفرعي أو الجزئي بدلاً من الولاء العام للإسلام وللمُسلمين ككُل.. وللجماعة المُسلمة.

وهي مُشكلة التمزُقات التي عانت منها كُل الجماعات التي اتخذت من العمل السري وسياستها فصنعت داخلها ولاءات مُتعددة ومُتنوعة.. كثيراً ما كانت تطغي على الولاء العام.

3- تضخُم الذات والغرور :

وهو أحد هذه الآفات المُنتشرة في التنظيمات السرية.. وذلك أنه كثيراً ما يكون في تكوينات البرامج التي يعد بها أفراد خلايا التنظيم إشعارهم بأنهم إنما يقومون بعمل مُتميز عن غيرهم.. وأنهم أفراد قد تم اختيارهِم من بين الناس لصلاحيتهم لعمل لا يصلُح له غيرهم.

- بل وكثير ما يكون التبرير للعمل السري بما فيه من مخاطر وأضرار هو الإنتقاص من فائدة وجدوى العمل العلني وما يحويه من دعوة وتربية وعمل اجتماعي وغير ذلك. وأنهم إنما ينعزلون عن هذا العمل لأنهُ كلام فارغ لا جدوى من ورائهِ.. فيبدأ إحساس هؤلاء الأفراد بتضخُم الذات والشعور بالتميُز والإستهانة بالآخرين .. حتى ولو كانوا علماء أو قادة.

- ومع تزايُد هذا الإحساس يزداد شعور الواحد منهم بصواب منطقه وأفضلية آرائه على غيره.. مُحتكراً اجتهادات وآراء الآخرين ومُزدرياً لأفكارهِم وعملهِم .. فتحدُث العُزلة الشعورية عن المُجتمع ويتولد لديهم الإحساس بالإستعلاء عليهم وهو استعلاءً في غير موضعه ولا مُبرر لهُ في الحقيقة.

- وهذا الغرور ينتج كثيراً من التصرفات الشاذة الخارجة على المُجتمع والمُنفردة دون الرجوع للقيادة الأساسية للجماعة أو لأهل العلم لضبطها أو توجيهها.. وما حاجتهم إلي التوجيه والضبط .. وهُم أميز وأفضل وأنقى العاملين للدين. وهكذا تحولت التنظيمات السرية الجهادية إلي قُنبلة انشطارية .. تنقسم إلي مجموعات صغيرة تحوي من القادة والأمراء أكثر مما تحوي من أفراد.. كُلهم يرى نفسه على صواب وكُل الناس على خطأ.. ماداموا يُخالفونهم الرأي .. وقد يتصور بعضهِم أنهُم محور الكون وأكثر من فيه فهماً وإدراكاً( ).

أما على المستوى التنظيمي فقد لعبت التنظيمات المُسلحة دوراً هاماً في تحول الحركة الإسلامية إلى ما يُشبه "التنظيم السري" رغم أن البعض منها حاول الخروج إلى "فضاء" العمل العلني كالإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية (في بعض مراحلها) إلا أن الجميع مارس العمل العلني بعقلية التنظيم السري المُنغلق الذي كان يعلم ويوقن أن الإغراق في الإنفتاح سيُكلفه الكثير في ظل نظام يعد عليه أنفاسه وسكناته ويتبع سياسية إجهاضية من الطراز الأول مما دفع الحركة إلى مزيد من السرية التي أثرت كثيراً على القُدرات الإبداعية الابتكارية للحركة ووضعتها في وضع نفسي مأزوم أثر على مزاجها العام وقُدرتها على القراءة السليمة للواقع وتغيراته كما أسلفنا القول .

فالعقود السابقة فرضت على الحركة الإسلامية قالباً تنظيمياً شبه مُنغلق يعتمد التراتيبية في بناء شكله التنظيمي حيثُ هبوط الأوامر من قمة الهرم التنظيمي إلى قاعه حيثُ توجد القاعدة العريضة عبر حلقات تنظيمية مُتتالية.

كما أن العلاقة بين رأس التنظيم وبين قاعدته تحولت من المجال البشري حيثُ الحق الطبيعي في المُناقشة والإعتراض إلى المجال المُقدس حيثُ تحكمت مُفردات "البيعة" و"السمع والطاعة" في العلاقة بين القمة والقاعدة مما أدى إلى اختفاء روح الشورى الحقيقية وقُدرة القاعدة على المُناقشة الجادة والثرية للقرارات الفوقية والتي كانت تُغلف بغُلاف من "القدسية" تحت زعم "معصومية القيادة" و" لثقة في القيادة" مما أفضى إلى مسخ شخصية "المُتلقى" واغتيال روح "النقد البناء" حتى انتهينا إلى نمطين : نمط مُستأنس مُنسحق ألغى عقله وعطل تفكيره وهو يظن أنهُ يُحسن فعلاً، والنمط الآخر هائج مُتمرد لا يحترم رأياً ولا يوقر شيخاً ويفضي به المآل إلى إحداث انشقاقات وتصدُعات قبل أن يترُك الحركة إلى غير رجعة ...

ولكن في ظل العلاقة الطبيعية تتضاءل الفُرص أمام نشوء النمطين لصالح نمط آخر صحي يمتلك روح "التفكير الناقد" والقُدرة الصحيحة على المُناقشة والمُراجعة وتصويب الخطأ لأن العلاقة هُنا داخلة في إطار "البشرية" تلك الصفة اللصيقة بالقائد والفرد.

وحتمية الإنتقال إلى النموذج العلني المُشرعن يتطلب تخلُص الحركة من "عسكرة" بنيتها التنظيمية والفكرية، فقد تظل الحركة تحتفظ بهذه "العسكرة" دون أن تدري حتى وهى تؤكد ليل نهار أنها طلقت العُنف طلاقاً بائناً وفككت أى تنظيم مُسلح داخلها، فعسكرة الفكرة والتنظيم لا تستلزم وجود تنظيم مُسلح ومُمارسة العُنف بل حالة من التفكير تلغي معها الرأى الآخر وتضيق ذرعاً بأى صوت مُخالف من داخلها .

خاتمة

يرى الباحث أن ثورة (25 يناير) قد خلقت مجالاً إيجابياً نحو إعادة الدمج الصحي للحركة الإسلامية في العملية السياسية على قاعدة احترام الدستور والقانون في كيانات شرعية مُعلنة مشمولة بالرقابة المُجتمعية والمؤسسية مما يؤدي إلى حالة من الشفافية في التعامُل مع الحالة الإسلامية تختفي معها كُل النتوءات الشائعة التي أدت إلى خلق حالة من الفوضى داخل مجال الحركة نتيجة فرض ثقافة العُنف والصدام على الحركة.

وإذا كان هذا هو الواجب المُجتمعي فإن التحدي المفروض على الحركة يتطلب منها نقداً دائماً صريحاً لهذه الظاهرة التي صاحبتها مُنذ عقود وعدم الإحتماء خلف المنهج التبريري فالمُصارحة هى أقصر الطُرق صوب البناء السليم والتواجُد الفعال.

* هذه الدراسة نشرت بنفس العنوان في المركز الدولي للدراسات المستقبلية و الإستراتيجية

*****************************
المصادر

1- الموافقات 4/ 552.
2- سيد قطب معالم فى الطريق ط . دار الشروق.
3- أسامة حافظ و عاصم عبد الماجد وراجعه آخرون مبادرة منع العنف رؤية واقعية ونظرة شرعية سلسلة تصحيح المفاهيم ط . مكتبة التراث الإسلامى ص 34.
4- محمود عبد الحليم الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ ط . مكتبة الدعوة 2/ 73 وما بعدها .
5- مبادرة منع العنف مرجع سابق ص5.
6- أسامة حافظ ، آفات العمل السري ،بحث منشور بموقع الجماعة الإسلامية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.