حين وقعت مجزرة الحوله الدامية في 25 مايو الماضي، والتي راح ضحيتها أكثر من مائة وثلاثين شهيداً منهم نحو 50 خمسين طفلاً، اعتقدنا أنها كانت ذروة غضب وانتقام من جيش بشار لما أصابه من خسائر في مواجهاته الأخيرة مع جيش سوريا الحر، وبالتالي لم نكن على يقين من أن هذه الجريمة يمكن أن تتكرر بصورة ممنهجة كما نرى الآن. لكن سرعان ما اتضح لنا- بعد مضي نحو شهر على تلك المذبحه وبعد أن شهدنا ما شهدنا من المذابح اليومية المشابهة- أن تلك المذبحة كانت بداية لمرحلة ممنهجة من التصعيد، قرر النظام اتباعها بهدف مواجهة النمو المتزايد لقوة الجيش السوري الحر.
ففي يوم الخميس الماضي 21/6 ، بلغ عدد ضحايا الجرائم التي ارتكبها النظام بحق المدنيين نحو 128 شهيداً، راحوا ضحية القصف المدفعي والصاروخي المكثف للمدن والقرى السورية، والذي لم يميز بين رجل وامراة أو شاب يافع وطفل.
وبلغت قسوة القصف حدا لم تمكن بعثة الصليب الأحمر الدولية من دخول مدينة حمص لإجلاء الجرحى والمحاصرين فيها وفق الاتفاق الذي تم مع النظام، تماما مثلما دفعت المراقبين الدوليين إلى التوقف عن مواصلة عملهم بسبب الأخطار التي باتت تهددهم بفعل تصاعد العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش النظامي ضد المدن والقرى.
(1) أسباب تصعيد بشار للأزمة في سوريا
هذا يدفعنا للتساؤل عن الأسباب التي تقف وراء تصعيد النظام لهذه العمليات التي باتت تقع يوميا، وتؤدي إلى وقوع ضحايا بالعشرات وتفوق أحيانا المائة ضحية؟ .. هل وصل بشار إلى قناعة بأن كل الجرائم التي ارتكبها جيشه قبل مجزرة الحوله وما تبعها من مجازر مشابهة أخرى .. لم تعد قادرة على مواجهة المقاومة المدنية والعسكرية للشعب السوري، ومن ثم توجب عليه الدخول في مواجهة حاسمة تحقق له السيطرة الكاملة على الأرض وقمع الثورة مهما كان الثمن؟.
أغلب الظن أن هذه القناعة أصبحت الآن القاعدة التي تستند إليها سياسة بشار في التعامل مع الثوار في المرحلة القادمة .. ما يعني أنه لن يتردد في استخدام كل ما في ترسانته العسكرية من اسلحة لحسم الموقف لصالح نظامه والقضاء على الثورة تماما.
فمنذ بداية التظاهرات، كان استخدام الخيار الأمني المغلظ في قمعها هو الأسلوب الذي اعتمده بشار في التعامل مع تلك التظاهرات. ومع تصاعد حدة هذا الخيار وارتكاب قوات النظام لجرائم قتل أقل ما توصف بها أنها وحشيتة ، فضلاً عن ممارسة التعذيب المروع بحق المعتقلين الذي كثيراً ما يفضي إلى الموت .. تصاعدت مطالب المتظاهرين إلى حد المناداة بإسقاط بشار ونظامه وتزايد عدد المنشقين عن الجيش النظامي ولجوئهم إلى استخدام السلاح، بهدف حماية المدنيين من ناحية والتصدي لجيش بشار وشبيحته والعمل على إجهاده، وصولاً لانهيار النظام وسقوط بشار.
لسنا بحاجة لاستعراض تلك المذابح التي وقعت منذ اندلاع الثورة السورية، والتي تصاعدت بشكل كبير وممنهج ومقزز في الأيام القليلة الماضية، وطالت- بعد مجزرة الحولة- بلدة دوما في ريف دمشق وحي الخل وحي دير بعلبا في ريف حمص، كما طالت مناطق أخرى مثل إدلب ودير الزور ومدينة درعا وريفيها.
لكن ما يثير التساؤل أن هذا النظام الذي حاول إعلامه بكل السبل تبرئة الجيش السوري النظامي والشبيحة من دم شهداء بلدة الحولة بخاصة .. كرر- عن عمد- ارتكاب جرائم أخرى لا تقل بشاعة ووحشية عن مذبحة الحولة، ضاربا عرض الحائط بكل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية التي تحرم ارتكاب هذه الجرائم.
(2) هل يعي الروس والصينيون تبعة تأييدهم لبشار ونظامه؟
ذكرت تقارير صحفية أن بشار لم يعد يستمع لنصائح أحد حتى حلفائه الروس الذين يبدو أنهم باتوا يضيقون ذرعاً من تجاهله لهم، حين يتخذ قرارات ومواقف تسبب لهم حرجاً أمام المجتمع الدولي.
كما ذكرت بعض التقارير الصحافية، أن الرئيس الروسي بوتين لم يعد يتمسك ببقاء بشار في الحكم إذا ما تم التوافق دولياً على حل سلمي للمشكلة، يكفل الحفاظ على مصالح روسيا في سوريا والمنطقة، ويضمن لبشار خروجاً آمنا.
غير أن ذلك لا يقطع باتجاه روسيا والصين قريباً نحو تغيير موقفهما من الدعم الذي تقدمانه لنظام بشار، والذي ما زال على حاله. فجميع التصريحات التي تصدر عن وزير الخارجية الروسي لافروف (الذي يحتفظ بنصيب الأسد من الملف السوري)، ما زالت تؤكد دعم روسيا لبشار ونظامه، ما يثير تساؤلاً حول ما إذا كان الكرملين قد وصل لقناعة، بأن المصالح الروسية في المنطقة ستكون معرضة لخطر محقق إذا ما سقط بشار ونظامه.
وهذا يثير تساؤلاً آخر حول ما إذا كان حكام موسكو وبكين يعون خطورة موقفهم المعارض لأماني الشعب السوري وثورته، والذي يسمح لبشار ونظامه بالاستمرار في ارتكاب الجرائم البشعة بحقه؟.
قد يكون صحيحاً أن مصالح هاتين الدولتين على المدى القصير يحتمل أن لا تتعرض لمثل هذا الخطر، وصحيح أن الرؤى المحايدة تؤكد هذه النظرة (في ضوء ما يقال عن أن الغرب نجح- حتى الآن- في الاستحواذ على ثورات الربيع العربي) .. غير أن ما هو صحيح أيضاً، أن هذا الاستحواذ- إذا ما جرى- لن يستمر طويلاً الأمر الذي يبقي النفوذ الروسي الذي يرجوه الكرملين معرضاً لخطر الزوال على المدي المتوسط والبعيد.
وهناك شواهد عديدة تؤيد هذا الرأي لعل من اظهرها: أن حاجز الخوف الذي كان يحول دون تحرك الشعوب ضد الحكام الطغاة والفاسدين، بدأ يتهاوى بشكل لافت. فرياح التغيير التي تهب على المنطقة، تنذر بأن شعوبها لم تعد تخشى شيئاً بعد أن فقدت كل شيء في ظل الانظمة الاستبدادية التي تحكمها، وهي في سبيلها للتحرر من التبعية للغرب التي كانت تلك الأنظمة توظفها في كبت حريات شعوبها، وقمع أي محاولات تصدر عنها للتحرر من تلك التبعية.
(3) اليأس وراء تصعيد بشار للصراع
ليس بعيداً عن هذا السياق أن نرى تلك المشاهد التي عرضتها الفضائيات عن مجازر ارتكبتها عناصر جيش بشار وشبيحته، والتي تظهرهم وهم يمثلون بجثث الضحايا الذين سقطوا صرعى نتيجة قصفهم بالدبابات وقنابل الهاونات وصواريخ الراجمات .. حتى نتأكد من أن بشار لم يعد يأبه لأية اعتبارات أو مشاعر إنسانية، ولا لأية حسابات محلية أو عربية أو إقليمية، ولا حتى للعلاقات مع حلفائه كما أعدائه، في تعامله غير الإنساني مع الشعب السوري وثورته.
وإذا ما دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن اليأس من القضاء على الثورة بدأ يتمكن من بشار ونظامه، وأنه بات يدفع بالمشكلة إلى خط الدفاع الأخير الذي رسمه مؤسس "نظام الأسدين" والده الراحل حافظ الأسد، وهو اللجوء إلى إقامة كيان علوي مستقل في الساحل السوري الذي تقطنه أغلبية علوية. وهذا- أغلب الظن- ما ستقبل به روسيا إذا تأكدت أن الثورة باتت قريبة من تحقيق النصر على بشار ونظامه. وليس من شك أن وسيلة بشار في ذلك إشعال حرب أهلية قوامها الطائفية البغيضة على ما ذكرنا.
هنا لا بد أن نستدرك فنقول: إن روسيا والصين ليستا الوحيدتين اللتين تعملان من أجل الحفاظ على مصالحهما في سوريا والمنطقة بعامة، حيث هناك الغرب الذي تتزعمه أمريكا والذي يعمل- هو أيضاً- للحفاظ على مصالحه فيها، وبخاصة درء أية أخطار قد تصيب إسرائيل نتيجة الصراع الدائر في هذا البلد من ناحية، وحرصه على استمرار انفراده في السيطرة السياسية والاقتصادية على المنطقة وبخاصة على بلدان الخليج العربي التي يقبع في باطن أرضها أكثر من 60% من احتياط النفط العالمي من ناحية أخرى.
ولتحقيق ذلك يرى الغرب أن استمرار الصراع في سوريا سوف ينتهي بدمار سوريا اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، كما سيجرد الشعوب العربية من قوة طالما ظل الصهاينة يتحسبون منها. ناهيك عن أن استمرار دعم روسيا والصين للنظام السوري يعني استمرار هذا الصراع. وهذا من شأنه أن يضع هاتين الدولتين في مصاف الدول المعادية للأمة العربية وتطلعاتها الأمر الذي طالما سعى الغرب لتكريسه لدى شعوب المنطقة، حتى يظل الوحيد القوة المهيمنة عليها سياسياً واقتصادياً كما ذكرنا. ومع ذلك يبدو أن الروس والصينيين ظلوا على قناعة بأن انتهاء نظام بشار يعني انتهاء نفوذهم في المنطقة، الأمر الذي يفسر إصرارهما على دعم بشار ضد أماني وطموحات الشعب السوري في التحرر بهذه الحدة.
(4) هل سينجح بشار في إقامة الكيان العلوي المستقل؟.
ثمة فرضية تقول بأن إقامة كيان علوي بات الخيار الأخير الذي يستعد بشار لولوجه كي ينجو بنفسه وعائلته من الوقوع بيد الثوار، وبخاصة أنهم أصبحوا قريبين من تحقيق النصر؟. وهنا نتساءل : قبل أن يسلم بشار بهزيمة نظامه، هل سيبدأ في إشعال حرب أهلية في سوريا قوامها الطائفية البغيضة .. والتي سيدفع بالطائفة العلوية في صدارتها؟، وهل سيحاول اجتذاب الطوائف الأخري التي تمثل أقليات في المجتمع السوري لجانبه على قاعدة تخويفهم من الجانب الآخر في هذه الحرب، وهم أبناء الطائفة السنية الذين يشكلون الغالبية من الشعب السوري؟ .. وما إمكانية قيام هذه الحرب على النحو الذي يريده وهو تفتيت سوريا لكيانات صغيرة تعين في تثبيت الكيان العلوي الذي يسعى لتشكيله؟.
هل الدول الإقليمية المؤيدة لنظام بشار مثل إيران، وكذلك الدول الأجنبية وبخاصة روسيا والصين ستقفان إلى جانبه في هذا المسعى؟ وما المكاسب التي يمكن أن يحققاها من دعمهما لبشار في إقامة هذا الكيان؟. وبكلمات أخرى هل من مصلحة روسيا والصين أن تقف بجانب بشار في هذا العمل الذي يمثل مواجهة صريحة وعداء فظاً لا مبرر له مع الغالبية العظمى من الدول العربية التي تعتنق شعوبها المذهب السني؟.
وإذا ما تيقن بشار من دعم هاتين الدولتين له في إقامة الكيان العلوي الذي ينشده، فهل سيعمل على تنفيذ تهديداته التي أنذر فيها بإشعال النيران في المنطقة؟ وهل سيضمن دعم هاتين الدولتين له في إقدامه على هذا العمل؟.
وعلى افتراض إقامته لذلك الكيان بشكل أو بآخر .. فهل سيبقي بشار وحزب الله وإيران على تهديداتهم بمهاجمة إسرائيل وقصفها بالصواريخ تحت شعار إشعال النيران في المنطقة إذا ما تعرضت سوريا لتدخل عسكري أجنبي؟. والأهم من ذلك، ألا يتحسب بشار من ردة فعل عنيفه تصدر عن امريكا والدول الأوربية، ليس فقط في حال تهديداته بالنسبة لإسرائيل، وإنما بسبب اصطفافه الاستراتيجي مع روسيا والصين ضد أمريكا والغرب بعامة؟.
وإذا ما قام هذا الكيان .. فهل سيكون قادراً على العيش ككيان سياسي واقتصادي يعتمد ذاتيا على كل متطلبات الدولة واحتياجات المواطنين؟ .. وهل سيضمن استمرار دعم إيرانوروسيا والصين ماديا وسياسيا وعسكريا إلى ما شاء الله؟.
وأخيراً وليس آخراً، هل يعتقد بشار بأنه في مأمن من طائفته التي تشعر(يقيناً) بأنه يزج بها في صراع لا مبرر له مع باقي مكونان الشعب السوري، كما تدرك أن الحفاظ على عائلة الأسد في سدة الحكم هي الهدف الغائي الذي يسعى بشار لبلوغه وليس المحافظة على الطائفة العلوية، كما تدرك أن عقدة الكَبْر على سائر خلق الله باتت تحكم هذه العائلة؟.
كل هذه الأسئلة وغيرها تشير إلى أن الوضع في سوريا خرج من نطاق صراع يدور بين الحاكم والمحكوم في بلد عربي تهب عليه رياح التغيير التي تستهدف الإصلاح بعد القضاء على الفساد، وسيادة الديمقراطية بعد إسقاط رؤوس الاستبداد، ونشر الحرية بعد قمع رعاة القمع وكبت الحريات .. ليعم بلدان المنطقة بأسرها العربية وغير العربية. وهذا ما يعطي المشكلة السورية أبعاداً تخرج عن نطاقها المحلي لتشمل المجال العربي والإقليمي إن لم يكن العالمي أيضاً.