فى بلادى، يحل الربيع مبكراً لكنه ككل شىء آخر.. فى بلادى، الحزن رفيق كل الأشياء ونزيل كل المواسم.. فى بلادى، الدموع تصحب كل المشاعر.. للحزن دموع، وللفرح أيضاً. فى بلادى، أورثتنا شمس الشرق بجرأتها ذاكرةً لعوباً تجتاح مباغتة، ثم تنسى عند الغروب كل الوعود. فى بلادى، تتأجج المشاعر فى لحظة.. وتنطفئ أيضاً.. إنه الشرق بجنونه وعاطفية عبثية لا تعرف حدوداً. تتفتح زهور آذار وتغرد طيوره، فتردد محطات الراديو القديمة أغانينا الأثيرة: ست الحبايب يا حبيبة.. فى محاولة للتشبث بفطرة الله السوية، بعد أن اقتحمتنا جرائم الشذوذ الإنسانى وأصبحنا نقتل الأرحام لا فقط نقطعها من أجل أسباب تبحث عن أسباب. ومَن منا لم يذق طعم الفراق.. مَن منا لا يكابد رحيلاً تلو رحيل.. وكلما مضت السنون أخذت فى قطارها الذى لا يرحم المزيد من المسافرين.. الجدة الكبيرة وأمومة مطلقة.. مُدرسة الفصل وروعة أول حرف.. خالة أو عمة كانت حضناً ثانياً لا يمل.. جارة طيبة هى ملاذ آمن وباب لا يغلق.. أمهات أخريات تصنعهن الأيام.. أمهات بلا أرحام يمارسن أمومة المواقف والتجارب.. وأحيانا الصدف. ليحل الربيع مثقلاً بمذاق الحنين وشجن الذكريات.. ثم لا يلبث أن يداهمنا يوم اليتيم.. أندهش من إفراط فى المشاعر نمارسه يوماً واحداً فى العام.. وكأن لليتم موعداً وموسماً.. لا يدركون أن الافتقاد لا يعرف الأيام ولا يحصيها ولا يوقع على ساعة حضور وانصراف.. أعجب من حسابات بشرية ساذجة، تفتش فى أوراق عقيمة.. شهادة ميلاد وأخرى للوفاة. بحثاً عن المعنى المادى الضيق لفقد الابن للأب فيصبح يتيماً أو فقده للأم فيصبح لطيماً.. أجد خير جواب لتلك الإشكالية قول أمير الشعراء: «ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلاً إن اليتيم هو الذى تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولاً». أتأمل حالنا لأرى اليتم وقد توغل فينا دون أن ندرك. أحزن على أبناء القهر والظلم وقصص تفطر القلوب فى رحلتى فى عالم أطفال الشارع.. أغضب من نفسى وألومها فمنذ سنوات طويلة فقدت أثر ذلك الطفل لم تتعدّ سنوات عمره أصابع اليدين وقد أجبره أبوه على ترك المدرسة ليعمل منادياً لسيارات الأجرة فى موقف كرداسة.. فيهرب الصغير من أجل شغف بالعلم ألم به يجالس زملاء الأمس يذاكر معهم ولهم فى جلساتهم على أبواب منازلهم كعادة أهل الريف.. تلبية لموهبة فطرية ونداء غريزى ربما كان ليقوده لدور آخر فى الحياة.. مجرد افتراض منطقى لعالِم محتمل أو مخترع تملأ أخباره الصحف.. لكن نصيبه من الحياة كان صفعات قاسية من جليس المقهى متعاطى البانجو الذى يدخل المنزل المتهالك مترنحاً آخر الليل ليأخذ تلك ال7 جنيهات اللعينة (يوميته كمنادٍ) من جيبه الصغير واسمه أب.. فما أبخسه ثمناً لطفولة قد قُهرت وحياة كانت تنتظره وقد وئدت.. وربما يكون له خبر يوماً فى جريدة ما لكن فى صفحة الحوادث.. فهل لليتم معنى آخر؟ إنها عودة لجاهلية عصور وأد البنات بصورة أسوأ فها نحن نئدهم أحياءً ذكوراً وإناثاً. ليتسع منظورى لليتم أكثر وأكثر.. أشعر به فى عيون كل إنسان لم يجد القدوة والمثل.. لم يجد صدراً حانياً يحتويه ليدفن فيه آلامه، ذراعاً عفية تشد من أزره، كتفاً يلقى عليها همومه فتهون المشاق، وطناً يسع أحلامه ويحمى كرامته.. لتطاردنى ذكرى تبعث من أيام طفولتى (فى وقت لم نكن نسمع عن ذلك المصطلح اللعين أطفال الشوارع) وذلك الرجل المتجهم وجيه المنظر رأيته قاطعاً الطريق متوجهاً لطفل فى مثل عمرى لكنه لم يبدُ مثلى.. كان متسخاً مغبراً وفى يده سيجارة.. انهالت يد الرجل عليه ليصل إلى مسامعى صياح الطفل (حرمت.. مش هاعمل كده تانى).. سألت أمى عن ذلك الرجل الشرير الذى يضرب (العيال) فى الشارع وهل يمكن أن يضربنى يوماً؟ فأجابت بطمأنينة موروث مجتمعى فقدناه: * لا يا حبيبتى هو بس مش عايزه يعمل الغلط. - بس هو ما يعرفوش. * هو اعتبره زى ابنه وهو زى أبوه. وأخيراً وبعد سنوات طويلة وعيت الدرس.. وأدركت القيمة.. حتى إنى أود الآن أن أبحث عن ذلك الرجل المتجهم لأعتذر له وأشكره وربما أقبل يده لأنه كان أباً حقيقياً.. يدرك معنى المسئولية دون طلب.. فهل نبحث عنه معاً ربما نجده فى داخلنا.. فى ركن من قلوبنا.. لنعيد لليتيم أباه وللوطن أبناءه؟ تحياتى نقلا عن " الوطن" المصرية