في عام 1998 أدخل الكاتب الناقد الفني الفرنسي نيكولاس بورريو Nicolas Bourriaud مصطلحا جديدا Relational aesthetics في أدبيات الفنون البصرية المعاصرة، عندما أصدر كتابا بهذا العنوان – وأرى أن أقرب ترجمة عربية للمصطلح هو ( جماليات التشابك مع المجتمع) . في هذا الكتاب جمع الكاتب تحت هذا العنوان طائفة من الفنانين المعاصرين اللذين رأى فيهم اتجاها مستحدثا ظهر بين الاتجاهات الفنية البصرية المعاصرة، وقال أن الفنان التايلاندي الأرجنتيني المولد ريركريت تايرافانيا Rirkrit Tiravanija يأتي علي رأس تلك المجموعة، وهو الذي اشتهر بعمل قدمه عام 1992 بقاعة (جاليري 303) بحي سوهو كان عبارة عن مطبخ أقامه في الجاليري يحتوي علي ثلاجة كهربائية ومعدات وأدوات الطبخ ومناضد وكراسي، وقام الفنان بنفسه بتجهيز أطباق الكاري التايلاندي وقدمها لكل من يرغب في تذوقها بدون مقابل، ثم أعاد تقديم العمل ذاته مرة أخري عام 2007 في جاليري دافيد زويرنر David Zwirner gallery بحي شيلسي .
ومن الجدير بالذكر أن متحف الفن الحديث بنيويورك اقتنى مؤخرا مكونات هذا التجهيز الفني ليعرضه ضمن مقتنيات المتحف في الفترة من 17 نوفمبر الجاري (2011)، وحتى 8 فبراير 2012، باعتبار أن ذلك العمل يمثل اتجاها جديدا في الفن أصبح معروفا باسم ( فن التشابك مع المجتمع) Relational aesthetics.
وكي أبسط ما هو المقصود بفن التشابك مع المجتمع (وهو موضوع فلسفي عظيم التعقيد وما زال يدور حوله كثير من الجدل) أقول أنه يمكن التمييز بين ثلاث مراحل مرت بها حركة الفنون البصرية العالمية منذ عصر النهضة الأوروبية وحتى الآن:
المرحلة الأولي - وهي تلك التي عبر فيها الفنانون البصريون عن أفكارهم وأحاسيسهم مراعين الواقع من حولهم، ورغم تغير وتنوع طريقة تناولهم لهذا الواقع، على مدار مرحلة ممتدة، فقد كانوا حريصين علي الالتزام بالناموس الذي يفرضه الواقع، فمثلا إذا أخذنا لوحة لويس دافيد التي تحكي أسطورة اغتصاب نساء قبيلة السابين نجدها جاءت في صورة شديدة الواقعية، بينما جاءت لوحة بيكاسو حول نفس الأسطورة في صورة تكعيبية تحليلية بها كثير من التحريف في النسب و الأشكال، لكن اللوحتان رغم الاختلاف الواضح في الأسلوب، إلا أن الفنانين اتفقا علي احترام واقع فكري واحد تعاملا معه والتزما بالمنطق الذي ينبني عليه ولم يعارضاه.
المرحلة الثانية عارض الفنانون البصريون فيها الواقع الحقيقي من حولهم، واستحدثوا واقعا من صنع خيالهم، لا يمت للواقع المعاش بصلة، ومثال ذلك أعمال فناني الحركات الدادية، والسريالية، والتجريد الهندسي، والتجريد التعبيري، فجاءت كل أعمالهم وتعبيراتهم مخالفة للطبيعة المرئية ومتعارضة معها، لقد أوجدوا واقعا من صنعهم حتى وإن كانت بعض تلك الأعمال مستلهمة ومستوحاة من عناصر تتواجد في الواقع الحي إلا أن ما قدموه يجئ واقعا قائم بذاته، ومختلف تماما عما حولهم.
المرحلة الثالثة جاءت بعد محاكاة الفنانون البصريون للواقع والتزامهم به في المرحلة الأولي، ثم البعد عنه ومعارضتهم له في المرحلة الثانية ، تأتي المرحلة الثالثة التي اتجهت فيها أعمال عدد من الفنانين البصريين لتطبق منطق جديد، فأصبح العمل الفني لديهم هو معايشة للواقع و الانغماس فيه، بحيث تصبح حياة الإنسان نفسه ومعاملاته وأنشطته هي العمل الفني ذاته، وتصبح محاكاة الأنشطة اليومية ذاتها عملا فنيا.
قد يكون من الصعب علي المرء إدراك الأمر من الوهلة الأولي، ولكن ربما إذا مررنا بتجربة من تلك التجارب التي يستدعي فيها فنان حالة من الأنشطة العادية مثلما فعل الفنان ريركريت بإقامته لمطبخ داخل الجاليري ودعوته المشاهدين للولوج إليه والمشاركة في تذوق الطعام، قد نغير من موقفنا المندهش لغرابة الفكرة، وربما سنضحك ونستخف بها.
وبهذه المناسبة لا يفوتني أن أذَكّرُ القراء بالعمل الذي قدمته الفنانة المصرية آمال قناوي في بينالي القاهرة الأخير عام 2010 وحصلت به علي الجائزة ألكبري للبينالي، لقد كان العمل عبارة عن تجهيز في الفراغ تضمن عديد من الأشياء ومن بينها مطبخ متكامل بأدواته قامت الفنانة بنفسها بطهي الطعام فيه أمام الجمهور وقدمت ما أعدته لمن يريد منهم تذوقه، لقد كان العمل مستغربا لدي الجمهور المصري، وأعتقد أن الغالبية استخفت بالأمر ورأت أنه لا يخرج كونه دعابة قصدتها الفنانة، وما لم يدركه الكثيرون أن الفنانة وضعت المشاهدين في موقف يعتادونه في الحياة ولكنها في ذات الوقت جعلتهم يبصرونه من زاوية فنية فكرية لم تكن في حسبانهم، وهذا يتشابه بقدر كبير مع ما فعله الفنان التايلاندي ريركريت.
ومن متابعتي لما يجري في قاعات الفن في كثير من عواصم الفن العالمي، وجدت أن عدد من متاحف الفن وقاعاته تقدم نماذج من الأعمال التي تندرج تحت المسمي الجديد ( فن التشابك مع المجتمع) الذي اخذ طريقه للذيوع والانتشار، ومنها ما يقدمه حاليا الفنان كارستن هولرCarsten Holler بمتحف (النيو ميوسيم) The New Museum بمدينة نيويورك، ويستمر العرض حتى يناير 2012 ، وعمله عبارة عن أنبوب معدني حلزوني ملتوي يدخله زائر العرض من طرف الأنبوب بالدور الرابع فيسقط من خلاله ليصل الدور الأول، إنه عمل اقرب ما يكون لعبة من العاب مدينة ملاهي، ولكنه في هذه الحالة عمل فني يقدمه الفنان في متحف للفن، يجعل المشاهد جزءا من العمل ويضعه في موقف يدفعه للمرور بتجربة يتشابك فيها الفن مع الواقع الحقيقي.
ولا يزال شريحة من الجمهور ونقاد الفن غير مقتنعين بأن مثل تلك الأعمال تدخل في نطاق الفنون البصرية، ولكن حب المغامرة والتجريب والخيال الجامح والفكر المنطلق لآفاق قد تقترب أحيانا من الجنون والشطط هي سمة من سمات العلاقة بين الإنسان والطبيعة من حوله.