يحتفل طلاب رسائل النور بالذكرى الخامسة والخمسين لذكرى رحيل الإمام بديع الزمان سعيد النورسي الذي توفى في مثل هذه الأيام وبالتحديد يوم (23 مارس 1960م) بعد أن ملأ الدنيا علما وفضلا.. وقد شاء الله (عز وجل) له أن يكون علامة بارزة، ومَعْلَمًا من معالم الفكر والجهاد في القرن العشرين. إنه العلامة المجدد المجاهد بديع الزمان سعيد النورسي، الذي وُلِد (سنة 1293ه - 1876م)، في قرية "نُورْس" التابعة لناحية "إسباريت" المرتبطة بقضاء "خيزان" من أعمال ولاية "بتليس" شرقي الأناضول. وكان والده رحمه الله، رجلا صوفيًّا، يُسمى "ميرزا"، يُضرب به المثل في الورع، فلم يذق حرامًا بل إنه كان إذا عاد بمواشيه من المرعى شدَّ أفواهها لئلا تأكل من مزارع الآخرين. أما أمه فكانت تسمى "نورية"، وقد اجتهدت في تربية أبنائها، وعندما سُئلت: ما طريقتك في تربية أولادك حتى حازوا هذا الذكاء النادر؟ أجابت: لم أفارق صلاة التهجد طوال حياتي إلا الأيام المعذورة شرعًا، ولم أُرضع أولادي إلا وأنا على طهر ووضوء. وكان سعيد النورسي (رحمه الله) طويل القامة، عسلي العينين، حنطي اللون، شافعي المذهب، وكان يتكلم باللغة التركية والكردية، ويقرأ ويكتب باللغة العربية والفارسية. وفي بواكير حياته رأى سعيد النورسي فيما يرى النائم أن القيامة قد قامت، وأن الكائنات قد بعثت من جديد. ففكر كيف يتمكن من زيارة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ثم تذكر أن عليه الانتظار في بداية الصراط الذي سيمر عليه كل فرد يوم القيامة، فأسرع إلى الصراط. وقد مرَّ به جميع الأنبياء والرسل الكرام، فزارهم واحدا واحدا، وقبَّل أيديَهم، وعندما حظي بزيارة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) هوى على يديه فقبَّلها، ثم طلب منه العلم، فبشَّره (صلى الله عليه وسلم): (سيوهب لك علم القرآن؛ ما لم تسأل أحدًا) ففجّرت هذه الرؤيا شوقًا عظيمًا فيه نحو طلب العلم. تتلمذ سعيد النورسي على يد أخيه الكبير "عبد الله" حيث تعلم القرآن الكريم، واقتصرت دراسته في هذه الفترة على الصرف والنحو، ثم بدأ يتنقل في القرى والمدن بين الأساتذة والمدارس ويتلقى العلوم الإسلامية من كُتبها المعتبرة بشغف عظيم، واجتمع له مع الذكاء قوة الحافظة، إذ درس وحفظ كتاب "جمع الجوامع" في أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب بن علي السبكي، في أسبوع واحد. ولم تلبث شهرة هذا الشاب أن انتشرت بعد أن فاق في مناقشاته علماءَ منطقته جميعًا، فسمّوه "سعيد المشهور". ثم ذهب إلى مدينة "تِللو" حيث اعتكف مدة في إحدى الزوايا، وحفظ هناك القاموس المحيط للفيروزآبادي إلى باب السين. وفي سنة 1892 ذهب "سعيد النورسي" إلى "ماردين" حيث بدأ يلقي دروسه في جامع المدينة، ويجيب عن أسئلة الناس، فوشي به إلى الوالي، فأصدر أمرًا بإخراجه، وسيق إلى "بتليس". فلما عرف واليها حقيقة هذا الشاب العالم ألحَّ عليه أن يقيم معه، وهناك وجد الفرصة سانحة لمطالعة الكتب العلمية لاسيما كتب علم الكلام والمنطق وكتب التفسير والحديث الشريف والفقه والنحو حتى بلغ محفوظه من متون هذه العلوم نحو ثمانين متنا. وفي سنة 1894م ذهب إلى مدينة "وان" وانكبّ فيها بعمق على دراسة كتب الرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء والجيولوجيا والفلسفة والتاريخ حتى تعمق فيها إلى درجة التأليف في بعضها، فسمّي ب"بديع الزمان" اعترافاً من أهل العلم بذكائه الحاد وعلمه الغزير واطلاعه الواسع. وفي هذه الأثناء نُشر في الصحف المحلية أن وزير المستعمرات البريطاني "جلادستون" قد صرّح في مجلس العموم البريطاني وهو يخاطب النواب قائلاً: "ما دام القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم، لذلك فلا مناص لنا من أن نزيله من الوجود أو نقطع صلة المسلمين به"... زلزل هذا الخبر كيانه وأقضّ مضجعه، فأعلن لمن حوله: "لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها، ولا يمكن إطفاء نورها". فشدَّ الرحال إلى استانبول عام 1907م وقدّم مشروعًا للسلطان عبد الحميد الثاني لإنشاء جامعة إسلامية في شرقي الأناضول، أطلق عليها اسم "مدرسة الزهراء" -على غرار الأزهر الشريف- تنهض بمهمة نشر حقائق الإسلام وتدمج فيها الدراسة الدينية مع العلوم الكونية. وكان له مقولته المشهورة في ذلك إذ يقول: "ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الكونية الحديثة، وبامتزاجهما تتجلى الحقيقة، وبافتراقهما تتولد الحيل والشبهات في هذا، والتعصب الذميم في ذاك".. وكانت شهرته العلمية قد سبقته إلى هناك فتجمع حوله الطلبة والعلماء يسألونه وهو يجيب في كل فن بغزارة نادرة. فاعترف له الجميع بالإمامة وبأنهم لم يشاهدوا في علمه وفضله أحدًا، حتى إن أحدهم عبَّر عن إعجابه الشديد بعد أن اختبره اختبارًا دقيقًا، فقال: "إن علمه ليس كسبيًّا وإنما هو هبة إلهية وعلمٌ لدنيّ". وفي سنة 1911م ذهب إلى بلاد الشام وألقى خطبة بليغة من على منبر الجامع الأموي، دعا فيها المسلمين إلى اليقظة والنهوض، وبيَّن فيها أمراض الأمة الاسلامية وسُبل علاجها، ثم رجع إلى إستانبول وعرض مشروعه بخصوص الجامعة الاسلامية على السلطان "رشاد" فوعده السلطان خيرًا، وفعلاً خُصّص المبلغ، وشرع بوضع حجر الأساس للجامعة على ضفاف بحيرة "وان" غير أن الحرب العالمية الأولى حالت دون إكمال المشروع.. وللحديث بقية. عضو اتحاد كتاب مصر