بديع الزمان سعيد النورسى واحد من العظماء الذين ألقى الله على كاهله مسئولية النهوض بتجديد الحياة فى الإيمان الراكد فى القلوب، وبعبء التصدى لهذا التيار الجارف الذى كاد يسلخ الشعب التركى عن تاريخه ودينه وإسلامه. ويرجع الفضل فى تعريف الأمة الإسلامية بفضل وقيمة هذا الرجل العلامة النورسى إلى العالم العراقى الكبير إحسان قاسم الصالحى المولود بكركوك سنة 1936، فقد كان والده أيضا من كبار العلماء ويتقن اللغة التركية وكان مرجعاً لألوف من طلاّب العلم والمعرفة باللغتين العربية والتركية وأدبائهما وشعرائهما والسابرين في أغوارهما، حتى وافاه الأجل سنة(1963). فقد ورث ابنه منه هذا الاهتمام، وقد كان الأستاذ إحسان قاسم يقضى الصيف فى تركيا كل عام، وفى سنة 1957 وقعت فى يده إحدى "رسائل النور"، فقرأها وأحس بعمقمها وأصر على مطالعة آثاره كلها، ومنذ هذا التاريخ وقع على كاهله ترجمة هذا الأثر العظيم من رسائل النور، وكتابة أكثر من مصنف حول سيرة هذا الرجل العظيم، الذى انتشل تركيا من الإلحاد الذى فرضه عليه الماسونى اليهودى "كمال أتاتورك" بقوة الدبابة ونصل السيف وسطوة البارود والرصاص ولم يفلح الاتجاه العلمانى فى نزع تركيا من محيطها الإسلامى فهى تعود بقوة إلى محيطها الإسلامى قوة دافعة ومؤثرة فى السياسة الدولية يهابها الكثير .. ولد سعيد النورسى فى عهد السلطان عبدالحميد أواخر عمر الدولة العثمانية الآيلة للسقوط، وعاصر تكالب الأعداء وتزاحمهم للقضاء على هذه الدولة، يحدوهم الحقد الأسود على الإسلام فى شخص دولة الخلافة رغم ما بذله السلطان عبدالحميد من جهود للمحافظة على دولته المترامية الأطراف طيلة ثلاثة وثلاثين سنة متوسلاً بدهائه اليساسى والإفادة من الظروف الدولية، ومحاولة إيقاظ العالم الإسلامى وتنبيهه إلى ضرورة المزيد من الوحدة والتماسك فيما بين شعوبه أمام الأعاصير القادمة من أوروبا الموتورة، إلا أن ذلك جاء قبل فوات الأوان، لأن الدوائر الأجنبية قد أعدت العدة للإجهاز على هذه الدولة بمساعدة عملاء لهم من الداخل استطاعوا تنفيذ المؤامرات التى حيكت بدقة، ونجحت فى ازاحة السلطان عبدالحميد الداعى إلى الجامعة الإسلامية، وتبعه خلفاء ضعاف لم يستطيعوا الصمود أمام هذه الرياح العاتية التى نجحت فى النهاية على أفول شمس الخلافة، وعمل مصطفى كمال أتاتورك الذى ألغى هذه الخلافة على قطع صلة تركيا بماضيها الزاهر المجيد، وغير من معالمها بقوة السلاح وإرهاب القانون، واستبدل القوانين الشرعية بقوانين سويسرية، وفرض الحياة الغربية على الأمة فرضاً، وجعل مخالفتها جريمة يعاقب عليها صاحبها بأشد العقوبات، واستبدل الحروف العربية حروفاً لاتينية. فى هذا المنعطف الخطير من حياة الأمة وأمام هذه الأعاصير الهائلة المزعزعة للحياة الإجتماعية بأسرها، ظهر بديع الزمان ليحمل هموم الأمة ويقوم بأعباء رسالة نذر لها نفسه وحياته وكل لحظة من وقته بعيداً عن المحافل السياسية وأروقتها وأنكب على تأليف "رسائل النور" ونشرها بين طبقات الأمة فى ظروف غاية فى الدقة والصعوبة، ليهيىء بها مجتمعاً إسلامياً كاملاً يتدفق بالحيوية والإيمان .. ولد سعيد النورسى فى قرية "نورس"، وهى إحدى قرى قضاء "خيزان" التابع لولاية "بتليس" شرق الأناضول سنة (1293- 1873) ، كان والده ورعاً يضرب به المثل، لم يذق حراماً، ولم يطعم أولاده من غير الحلال، ظهرت مخايل النبوغ والدكاء على سعيد منذ الصغر، حيث كان دائم السؤال والاستطلاع لكل ما استغلق عليه فهمه، فكان يحضر مجالس الكبار، حفظ القرآن الكريم، وسافر إلى مدينة "وان"، وتعلم كتب الفقه والتاريخ والعلوم الحديثة كالرياضيات، والفلك، والكيمياء، والفيزياء، والجيولوجيا، والفلسفة، والتاريخ، والجغرافيا، وذاعت من هذه الوقت شهرته، وأطلق عليه لقب "بديع الزمان"، وفى هذا الوقت من إقامته فى مدينة "وان" يقرأ فى الصحف المحلية خبراً مدهشاً هز كيانه كله هزاً عنيفاً، فقد نشرت الصحف ما قاله رئيس الوزير البريطانى "جلادستون" فى مجلس العموم البريطانى، وهو يخاطب النواب وبيده نسخة من القرآن الكريم: "ما دام هذا القرآن بيد المسلمين، فلن نستطيع أن نحكمهم، لذلك فلا مناص لنا من أن نزيله من الوجود أو نقطع صلة المسلمين به....". زلزل هذا الخبر كيانه زلزالاً شديداً، وصمم بينه وبين نفسه على أن يكرس كل حياته لإظهار إعجاز القرآن، وربط المسلمين بكتاب الله حيث قال: "لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاء نورها". ويذهب إلى استانبول، ويلتقى بكبار العلماء والأدباء منهم الشاعر المشهور "محمد عاكف"، وكان الرجل جريئاً شجاعاً لا يهاب أحداً، فقدم أثناء إقامته بأستانبول عريضة إلى السلطان عبدالحميد يطلب فيها فتح المدارس التى تعلم العلوم الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء بجانب المدارس الدينية فى شرق الأناضول حيث يخيم الجهل والفقر على سكانه ...ثم يقابل السلطان عبدالحميد، وأثناء مقابلته ينتقد نظام الاستبداد، ونظام الاستخبارات لقصر "يلدز"، مما أثار نقمة حاشية السلطان، وأحالوه إلى محكمة عسكرية، ويتكلم أثناء المحكمة بثقة وجرأة كبيرة مما حدا برئيس المحكمة لإحالته إلى أحد أطباء لفحص قواه العقلية، وعندما حضر الطبيب لفحصه يبادره النورسى بحديث يأخذ بمجامع قلب الطبيب الذى كتب عنه: "لو كانت هناك ذرة واحدة من الجنون عند بديع الزمان، فمعنى ذلك أنه لا يوجد على وجه الأرض كلها عاقل واحد". ويذهب إلى "سالونيك" التى تضم كل المتأمرين ضد وجود الخلافة من جماعة "الاتحاد والترقى" ويهود الدونمة، ويواجههم بكل شجاعة: "لقد أعتديتم على الدين وأدرتم ظهوركم للشريعة"، ويقابل الماسونى الكبير "قرصو باشا"، الذى عرض على السلطان عبدالحميد ذات يوم بأن يعطى لهم فلسطين مقابل مساعدة الدولة العثمانية فى عثراتها الاقتصادية والسياسية فرد عليه قائلا: هذه أرض المسلمين جميعا ولا أملك منحها لأحد، فرد عليه هذا الماسونى الشرير: "سترى كم يكلفك هذا الرفض".. ويفر "قرصو" من أمام النورسى مذعوراً ليقول: "لقد كاد الرجل أن يزحينى بحديثه فى الإسلام". وشهد بعبقريته الشيخ محمد بخيت المطيعى مفتى الديار المصرية عندما زار الآستانة فى عام 1908. ودار بينه هذا الحوار، وأراد علماء استانبول – الذين عجزوا عن إلزام سعيد النورسي – أن يقوم بمناظرته وقد قبل الشيخ بخيت ذلك وانتهز فرصة وجوده في مقهى قرب جامع" أيا صوفيا" بعد انتهاء الصلاة ليبدأ الحديث معه أمام جمع من العلماء ويوجه إليه السؤال الآتي: ما رأيك في الحرية الموجودة الآن في الدولة العثمانية؟ وماذا تقول في مدينة أوروبا؟ فأجابه سعيد النورسي: إن الدولة العثمانية حبلى بجنين أوربا وستلد يوما ما، أما أوربا فهي حبلى بجنين الإسلام وستلد يوما ما ... وأمام هذا الجواب الموجز العميق لم يتمالك الشيخ (بخيت) نفسه من القول: أنني أوافق على كلامه وأنني أحمل هذا الرأي نفسه ولا يمكن المناظرة والمناقشة مع هذا الشاب وبعد عزل السلطان عبدالحميد عام 1909، يتعرض يقبض عليه وكاد يتعرض للإعدام من قبل جمعية "الاتحاد والترقى"، وقال لهيئة المحكمة: "لو أن لى ألف روح لما ترددت أن أجعلها فداء لحقيقة واحدة من حقائق الإسلام"، ولم تجد المحكمة بد من براءته، ويذهب إلى الشام بعد ذلك، ويحث أهلها عبر الخطب البليغة، وشخص فيها أمراض الأمة الإسلامية وعلاجها، ودعاهم إلى الوحدة ونبذ الفرقة وإعمال الصدق والإخلاص، ثم يشارك مقاتلاً فى الحرب العالمية الأولى، وأثناء دفاعه عن "بتليس" يصاب بجرح بالغ، يوقع على أثره فى الأسر من قبل الروس، ويرسل إلى أحد معسكرات الأسر فى"قوصترما" شرقى روسيا، ومكث فى الأسر سنتين وأربعة اشهر، واستطاع الهرب أثناء اندلاع "الثورة البلشفية" فى روسيا وما تبعها من اضطراب وفوضى، وتنتهى الحرب العالمية باحتلال استانبول ودخول جيوش الحلفاء إلى تركيا والشماتة تسيطر عليهم، فلم ينسوا الصراع التاريخى وسقوط القسطنطينية منذ خمسة قرون عندما فتحها السلطان محمد الفاتح، وتحاك المؤمرات بليل ويتفق الصليبيون على دفع القائد الماسونى مصطفى كمال أتاتورك وإغرائه بنصر متفق عليه سلفاً مقابل تحقيق حلم حياتهم وهو القضاء على الخلافة العثمانية، وكان النورسى أول العلماء اكتشافاً لنية الذئب الأغبر الخبيثة (أتاتورك) ، ولمس سلوكه عن قرب وجد أنه يعادى الإسلام وينفر منه، وحدثت بينهما مشادة عندما حث النورسى الجنود والقادة على التمسك بالإسلام وإقامة الصلاة، فانصاعوا له بعدما أسر قلوبهم، فغضب أتاتورك من هذا متهماً إياه ببث الفرقة بين الجنود، فرد عليه النورسى مشيراً إليه فى حدة : "باشا باشا، إن أعظم حقيقة بعد الإيمان هى الصلاة، وأن الذى لا يصلى فهو خائن، وحكم الخائن مردود". بعد انهيار الخلافة، عمل أتاتورك على سلخ المجتمع التركى عن الإسلام، كما أسلفنا - ووقف له العلماء بالمرصاد فكان جزاءهم السجن والنفى والتشريد، وكان أن أبعد الشيخ سعيد النورسى إلى مدينة "بارلا"، وهنا يمكث فى هذه البلدة ثمانى سنوات، ألف خلالها معظم رسائل النور، وفى تلك السنوات الحالكة كان الإسلام يتعرض لزلزال كبير فى تركيا، فالحرب ضد الإسلام تقودها الحكومة بكل أجهزة الدعاية والإعلام التى تملكها، وبأقلام جميع المنافقين والمتزلفين وأعداء الإسلام من الكتاب والصحفيين، وهم موجودون فى كل عصر كسحرة فرعون، ولو أن سحرة فرعون آمنوا لما رأوا برهان ربهم - فى الوقت الذى كممت فيه دعاة الإسلام، وحيل بينهم وبين الدفاع عن عقيدتهم، لذلك تعرضت أسس الإسلام وأصوله الأولية إلى الشك والإنكار فى نفوس كثير من الشباب الذى لم يكن يجد أمامه مرشداً وموجههاً ، لذلك قرر سعيد النورسى أن يحمل على كاهله وأن يحاول إنقاذ الإيمان فى تركيا. كان تأليف "رسائل النور" ونشرها شيئاً متميزاً وفريداً فى تاريخ الدعوة الإسلامية المعاصرة، وكان الشيخ يمليها على طلابه فى حالات من الجيشان الروحى والوجدانى وبعد ذلك تتداول النسخة الأصلية بين التلاميذ الذين يقومون بدورهم باستنساخها باليد، ثم ترجع هذه النسخ جميعها إليه لكى يقوم بتدقيقها وتصحيح أخطاء الإستنساخ إن وجدت، ولم يكن لديه أية كتب أو مصادر يرجع إليها عند التأليف سوى القرآن الكريم، وقد ساعده على ذلك ما وهبه الله من ذاكرة خارقة وقدرة عجيبة على الحفظ، فكان يستقى عند تأليف رسائله من محفوظاته فى مصادر العلوم الدينية التى كان قد قرأها فى بداية حياته، واستطاعت هذه الرسائل أن تحافظ على التعاليم الإسلامية فى الصدور، وهى التى جعلت المجتمع التركى يلفظ العلمانية بعدما تجبرت فى الأرض العثمانية بغشم القانون الكمالى القاسى، وعادت تركيا إلى دوحة الإسلام تؤثر فيه، وأنزوى حكم الجنرالات إلى غير رجعة. رحيله: وفي الساعة الثانية والنصف صباحا يوم الأربعاء الخامس والعشرين من رمضان سنة 1379ه ( 23 مارس 1960م) يتحسس أحد طلابه حرارته فيجدها قد انخفضت قليلا فيغطيه ويقوم بإشعال الموقد في الغرفة وهو يحمد الله على تحسن صحة الأستاذ . ولكن الصباح يقترب ولا يقوم الأستاذ لصلاة الصبح .. يكشف أحدهم عن وجهه فيعرف الحقيقة لقد انتقل أستاذه إلى بارئه . وينتشر الخبر في "أورفة" أول الأمر فتتجمهر الألوف حول الفندق ثم ينتشر ل الخبر في المدن التركية الأخرى ويبدأ سيل من الناس بالوفود إلي المدينة وعلى أكتاف طلابه ومحبيه وعشرات الآلاف من المشيعين وبينما المطر ينزل رذاذا من السماء يواري الأستاذ العظيم بالتراب في مقبرة "أولو جامع "، وبعد رحيله بأيام وقع انقلاب عسكري في 27 مارس سنة 1960 أطاح بالحزب الديمقراطي وسيق أعضاء الحكومة إلى المحكمة التي أطلق عليه اسم "محكمة الدستور" وانتهت هذه المحكمة ا بتنفيذ حكم الإعدام برئيس الوزراء "عدنان مندرس" وعلى اثنين من وزرائه وبمدد مختلفة للوزراء وللمسئولين السابقين في حكومة الحزب الديمقراطي . كما بدت عداء لجميع التيارات والحركات الإسلامية في تركيا ومنها حركة "طلاب النور "وكأن حقد أعداء الإسلام وغيظهم على الأستاذ سعيد النورسي لم ينته حتي وفاته فأرادوا الانتقام منه وهو في القبر فقاموا بعمل لا يقع مثله في التاريخ إلاّ نادرا .. قاموا بنقل رفات هذا العالم الجليل إلى جهة غير معلومة : في يوم 11 تموز سنة 1960 توجه وإلى مدينة "أورفة" مع القائد العسكري للقطاع الشرقي بطائرة عسكرية إلى مدينة "قونيا" حيث كان شقيق الأستاذ سعيد النورسي الشيخ "عبد المجيد " حيث استدعي إلى قصر الوالي وقيل له سنقوم بنقل رفات أخيك الشيخ سعيد النورسي من أورفة ، وسيتم هذا النقل على افتراض طلبك أنت , لذا وقع على هذه الورقة ، فرد عليهم الأخ قائلاً: "ولكني لم أطلب هذا". "لا داعي للإطالة .. وقع على هذه الورقة".. فقال له: وهكذا أجبر المسكين تحت التهديد والوعيد على تنفيذ طلبه وتم نقل الرفات الشيخ الطاهرة إلى جهة غير معلومة وبرغم التضييق والوعيد والبغض الشديد للإسلام سرت دعوة الشيخ سعيد النورسى فى الآفاق وقيض الله تلامذة له مخلصون رزقوا خصال الحواريين فى إخلاصهم، وبفضل دعوته هذه عادت تركيا من غربتها المحلدة الفاجرة التى فرضها عليها الكماليون الصهاينة عقودا من الزمان وحوكم كل من أجرم فى حق تركيا ولم تسقط جرائمهم بالتقادم ...