تؤكد الوقائع التاريخية، العنيدة والعصية على التزييف، أن جمال عبد الناصر قد عاش؛ كما هتف له الشعب المصرى، الذى أثبت فى كل اختبار ومنعطف تاريخى أنه المعلم والقائد. وقد كتبت وأكرر أن إرث ثورة 23 يوليو وزعامة جمال عبد الناصر يستحق قراءة موضوعية نقدية؛ تتجرد من أوهام تُلهم البعض، وتتحرر من أشباح تُؤرق البعض الآخر. وأعلنت فى مقالات سابقة وأكرر باستقامة أن انجازات الثورة وزعيمها تجب إخفاقاتهما؛ سواء من زاوية أن خياراتهما وسياساتهما وإجراءاتهما كانت ابنة زمانها, أو من منظور ما ينبغى لمصر أن تسعى لتحقيقه من أجل المستقبل من قيم التقدم وإن بوسائل متغيرة. وفى ذكرى وفاة جمال عبد الناصر، لنتذكر أن مصر تحت قيادته قد حققت انتصارات كبرى فى معارك الاستقلال الوطنى السياسى والاقتصادى, والتصنيع والتنمية والعدالة الاجتماعية، وشغلت وبجدارة مستحقة موقع قيادة حركة التحرر الوطنى العالمية. ومازال بناء السد العالى وتأميم قناة السويس شاهدين على بؤس نقد منكوبى وأعداء ثورة يوليو وزعيمها، ومعهم مضلَلون تبنوا دون إعمال عقولهم وعيا زائفا كرسه خطاب النقد المغرِض. فبفضل بناء السد تمكنت مصر لأول مرة فى تاريخها من كبح أهواء فيضان النيل وتقليص هدر مياهه فى البحر, وتوفرت لها فرصة وضع سياسة مائية لتوفير وترشيد وتنمية واعادة استخدام حصة مصر من مياه النيل لاستصلاح واستزراع أقصى ما يمكن من أرضها, وبناء قاعدة الطاقة اللازمة للتصنيع والتنمية الشاملة بتوليد أقصى المتاح لإنتاج الكهرباء من المصادر المائية النظيفة والرخيصة، واقامة أول وأحدث شبكة قومية لتوزيع الكهرباء. وبفضل تأميم القناة استردت مصر حقا مغتصبا, ووفرت أهم مصدر وطنى تمويلا للتصنيع والتنمية, واستعادت سيادتها الوطنية، وصفت قاعدة الإحتلال وذريعته. وكان انتصار مصر بقيادة جمال عبد الناصر فى معركة السويس انعطافة حاسمة فى تاريخ مصر, وضعها فى مكان الريادة العالمية الجدير بها, ليس فقط بقيادة حركة التحرر الوطنى العربية والعالمية, وإنما بالتقدم خطوات حاسمة على طريق تحقيق حلم تصنيع مصر, حتى غدت بين اكثر خمس بلدان نامية تصنيعا فى بداية سبعينيات القرن الماضى. وقد تمادت قيادة عبد الناصر لمعارك مصر ضد الاستعمار الى مدى يتجاوز قدرة مصر, وانزلقت الى حرب اليمن فمهد الطريق لمؤامرة اصطياد الديك الرومى, فكانت هزيمة 1967. ورغم مرارة الهزيمة وتحت نيران حرب الاستنزاف, تحقق وعد الثورة ببناء جيش وطنى قوى, وهو ما جسده انتصار القوات المسلحة المصرية فى معركة العبور المستحيل العظيم فى أكتوبر 1973. وهو الجيش الوطنى الذى انتصر لارادة الشعب، فكان أن سقط حكم الفساد المنظم والجشع المنفلت بثورة 25 يناير، ثم انتصر مجددا لارادة الشعب فسقط حكم الفاشية الاخوانية ومخطط الفوضى الأمريكى بثورة 30 يونيو، وهو الجيش الذى يخوض حربا مريرة ضد الإرهاب التكفيرى ويوجه له ضربات قاصمة لن تتوقف حتى هزيمته دون ريب. وكانت جنازة جمال عبد الناصر الفريدة اعلانا تاريخيا من الشعب المصرى بأنه يعرف قدر ويثمن دور زعيمه رغم خطيئة الهزيمة، وكان امتداد جنازته الشعبية عربيا من المحيط الى الخليج هزيمة نكراء لصغار استهدفوا وراثة زعامته فرموه بالانهزامية والخيانة؛ رغم استهدافه بقبول وقف اطلاق النار تمكين مصر من بناء حائط الصواريخ على ضفاف القناة استعدادا لحرب العبور والتحرير، ورغم استنزافه لحياته فى مؤتمر قمة عربية طارئة دعا اليها لإنقاذ المقاومة الفلسطينية المزايدة عليه من مذابح أيلول الأسود. وكان عبد الناصر ملهم وزعيم دعوة الوحدة العربية، ورغم اشعاله الحرب الباردة العربية العربية, فقد استوعب بعد انفصال سوريا أن الوحدة العربية حلم مؤجل، واتجه بعد عدوان يونيو الى توحيد الصف العربى! وكانت رؤية ثورة يوليو وزعيمها لسبل تحقيق التنمية الاقتصادية والعدل الاجتماعى عبر التأميم الاشتراكى ابنة زمانها, زمن صعود الاشتراكية السوفيتية والاشتراكية الديمقراطية والتوجه الاشتراكى. ولم تنفرد الثورة بالاصلاح الزراعى وتصفية الإقطاع, فقد سبقتها اليها كل الدول الرأسمالية المتقدمة فى سياق التطلع الى التصنيع. ولا ينفى هذا إخفاق الثورة والزعيم بوأدهما الرأسمالية الوطنية, خاصة الصناعية؛ لكن مواجهة هذا الإخفاق لا تكون بالخصخصة وخرافة السوق الحرة, وإنما باقامة اقتصاد السوق الاجتماعية, يوازن بين: أدوار الدولة والسوق, اعتبارات الكفاءة الاقتصادية ومقتضيات العدالة الاجتماعية, جذب الاستثمار الأجنبى وحفظ السيادة الوطنية, المسئولية الاجتماعية للرأسمالية وسعيها للربح المشروع. وهنا تبرز أمام الرئيس عبد الفتاح السيسى مهمة استعادة الاستقلال النسبى للدولة الذى تحقق فى عهد عبد الناصر؛ للحيلولة دون زواج الثروة والسلطة أو سيطرة رأس المال والإحتكار على الحكم وفق مبادىء ثورة 23 يوليو, كما تبرز ضرورة تجاوز وهم أن عدالة توزيع الدخل تكفى لتجاوز عواقب التضخم السكانى، الذى هزم كل أغراض التنمية الاقتصادية، وكان أحد الأسباب التى أذلتنا للجميع؛ بكلمات جمال حمدان. ورغم صواب قرار الثورة بحل جماعة الإخوان المسلمين، كما تكشف للأمة المصرية خلال حكمها وعقب إسقاطه، فقد كان وأد الديمقراطية السياسية أعظم إخفاقات الثورة وزعيمها. وانطلاقا من فهم مغلوط بأن تعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطنة يغنى عن احترام الحقوق السياسية والمدنية للمواطنة، كان تدمير المجتمع المدنى المستقل وتعزيز نظام سياسى سلطوى, يستحيل دون تجاوزه تأسيس دولة المواطنة وتعميق الولاء والانتماء الوطنى وتعزيز الاستقلال الوطنى. وهنا أيضا، وخاصة بعد ثورتى يناير ويونيو الشعبيتين، ورغم أسبقية إنقاذ الوطن والأمة والهوية والدولة، فانه على أجهزة الدولة والقوى الاجتماعية المعبرة عن نظام ما قبل ثورة 25 يناير استيعاب حقيقة أن الشعب لن يقبل، والحكم لن يتمكن من إدارة الدولة بالأساليب الاستبدادية التى فجرت الثورة، وأن الشعب لن يقبل، والحكم لن يتمكن من تكريس الأوضاع الفاسدة التى ولدت الثورة. وبهذا فقط سوف تتمكن مصر فى عهد الرئيس عبد الفتاح السيسى من التقدم الشامل فى بيئة متغيرة. نقلا عن " الاهرام" المصرية