أنهى البابا فرنسيس الأول، بابا الفاتيكان، مساء أمس الإثنين، زيارة هي الأولى له إلى الأراضي المقدسة، بدا فيها كمن يمشي على حقل ألغام في منطقة تموج بالصراع، محاولاً تجنب إثارة اليهود أو المسلمين، فقام بزيارات وصفها الفاتيكان ب"البروتوكولية"، رغم اعتبار أحد الأطراف لها بأنها "تاريخية". وكانت ورود الفلسطينيين في استقبال ووداع البابا، فيما ودعت إسرائيل "رحالة السلام" بإعلانها عن وحدات استيطانية جديدة لتضع مزيدا من العراقيل أمام عملية السلام المتعثرة بالأساس. وجامل البابا مستقبليه من المسلمين واليهود، بكلمات أو حركات دون أن يمنعه ذلك من وقفات، لعل أبرزها وقفته غير المخططة يوم أمس الأول الأحد، أمام الجدار الإسرائيلي الفاصل في مدينة بيت لحم، جنوبي الضفة الغربية، والتي باتت عنوان هذه الزيارة التي استمرت 3 أيام. وإن كان الفاتيكان الصوت الأعلى للمسيحيين في العالم، فإنه لم يخذل المسيحيين في الأرض المقدسة الذين استقبلوه بالورود وناشدوه بإثارة القيود الإسرائيلية على حركتهم إلى مدينة القدس، فقال البابا بكلمات صريحة في مقر رؤساء إسرائيل في القدسالغربية بُعيد اجتماعه مع الرئيس الإسرائيلي، شيمون بيريز، " لتكن القدس فعلاً مدينة السلام! ولتسطع بالكامل هويتها وطابعها المقدس، وقيمتها الدينية والثقافية الكونية ككنز للإنسانية برمتها! كم هو جميل عندما يتمكن الحجاج والمقيمون هنا من الوصول إلى الأماكن المقدسة بحرية والمشاركة في الاحتفالات". وعندما هاجمت الشرطة الإسرائيلية مصلين مسيحيين في القدس أرادوا رؤية البابا أثناء تحركه في القدس، فإن الفاتيكان عمد إلى نشر رسالة وصلت البابا من أحد مسيحيي القدس، وهو زوج وأب لطفلين قال فيها "كنا في انتظار زيارتك التاريخية للقدس مدينتنا المحبوبة، ولكن لأننا كنا نعلم أنه ستتم عرقلة لقائنا مع قداستكم من قبل السلطات الإسرائيلية، فقد قمنا بالترتيب مع البطريركية اللاتينية، كي تقوم مجموعة منّا فقط بملاقاتك على الطريق، لمجرد أن نلمحك وأنت في طريقك إلى كنيسة القيامة، ولقاءك التاريخي مع البطريرك المسكوني". وأضافت الرسالة التي نشرها الفاتيكان على موقعه الإلكتروني، مساء أمس الإثنين "ومع ذلك فقد تعرضت (مساء أول من أمس الأحد) مجموعة من النساء والأطفال وذوي الإحتياجات الخاصة، الفلسطينيين، للضرب من قبل الشرطة الإسرائيلية، وبعد أن منعونا من العبور من أماكن مختلفة، اتهمونا أخيراً بعرقلة الشارع، فأصيبت النساء والأطفال بجروح، وألقي القبض على الشبان لبعض الوقت، ولم يأت أحد لإنقاذنا". مسيحياً أيضاً، حملت الزيارة رسالة أخرى بانعقاد اللقاء التاريخي الخاص مع بطريرك القسطنطينيّة المسكوني بارثولوميوس في مقر القاصدة الرسوليّة في البلدة القديمة في القدس، وما تبعه من إعلان مشترك وقداس مشترك في كنيسة القيامة بمناسبة مرور خمسين عاماً على اللقاء الذي جمع سلفيهما البابا بولس السادس بالبطريرك أثيناغورس، في كنيسة القيامة. فلسطينياً، اقترب البابا إلى حد كبير من المعاناة الفلسطينية بقراره تناول طعام الغداء مع 5 عائلات فلسطينية إحداها مهجرة في قرية غير معترف بها في إسرائيل، وأخرى تشتتها السياسة الإسرائيلية برفض لم شمل العائلات الفلسطينية، وثالثة لها ابن معتقل في السجون الإسرائيلية، وأخرى يفصلها جدار الفصل الإسرائيلي عن أرضها، وخامسة أتت من قطاع غزة المحاصر، في حين أفرد للاجئين زيارة خاصة إلى مخيم "الدهيشة" للاجئين في بيت لحم حيث التقى أطفال من مخيمات فلسطينية. وفي هذا الصدد قال البابا بعد أن وطئت قدماه أرض بيت لحم" إذ أعرب عن قربي ممن يتألمون أكثر من غيرهم بسبب نتائج هذا الصراع، أود أن أقول من صميم القلب إنه آن الأوان لإنهاء هذا الوضع الذي لم يعد مقبولاً، وهذا من أجل خير الجميع". وأضاف في عبارة أغضبت إسرائيل لتضمنها اعترافاً واضحاً بدولة فلسطين: "وجودي اليوم في فلسطين يشهد على العلاقات الطيبة القائمة بين الكرسي الرسولي ودولة فلسطين". وتكللت هذه المواقف بوقفة عفوية غير مقررة أمام جدار الفصل الذي أقامته إسرائيل على أراضي بيت لحم لفصلها عن القدسالشرقية في مشهد أغضب إسرائيل. ولأول مرة فقد كانت فلسطين المحطة الأولى لزيارة الحبر الأعظم لإسرائيل وفلسطين، حيث وصل إلى مدينة بيت لحم بطائرة عمودية أردنية مباشرة من الأردن ما تم اعتباره زيارة من دولة إلى دولة من قبل المسؤولين الفلسطينيين. وكان البابا استخدم طائرة مروحية إسرائيلية في تنقله من مطار (بن غوريون) القريب من تل أبيب، إلى القدس حيث زار مواقع دينية إسلامية ومسيحية ويهودية في القدسالشرقيةوالقدسالغربية، مجدداً التأكيد على الحاجة لحل الصراع الفلسطيني –الاسرائيلي ما حدا به إلى دعوة الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، والرئيس الإسرائيلي، شيمون بيريز إلى صلاة من أجل السلام في الفاتيكان يوم السادس من شهر يونيو/حزيران المقبل. مشهد البابا والجدار، أثار حفيظة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو الذي أحرج البابا بالطلب منه زيارة نصب تذكاري أقامته الحكومة الإسرائيلية ليهود قتلوا في هجمات فلسطينية ، رغم أنها لم تكن على جدول الزيارة، وذلك أثناء زيارته لجبل "هرتزل" في القدسالغربية لوضع إكليل من الزهور على قبر مؤسسة الحركة الصهيونية، "ثيودور هيرتسل". زيارة البابا إلى جبل "هرتزل" وصفت ب"التاريخية" من قبل وسائل إعلام إسرائيلية، غير أن الموقع الرسمي لزيارة البابا اعتبرها "بروتوكولية"، إذ قال " بعد هذه الزيارة إلى جبل هرتزل، التي يفرضها البروتوكول الإسرائيلي، طلب رئيس الوزراء نتنياهو من البابا التوقف أيضاً عند نصب ضحايا الإرهاب". البابا زار أيضاً متحف "ياد فاشيم" والذي يخلد ذكر المحرقة أو ما يعرف ب"الهولوكوست" التي نفذت ضد يهود في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، متعهداً بأن لا تتكرر هذه الجريمة ثانية بقوله " ليس بعد الآن، يا رب، ليس بعد الآن". كما التقى البابا مع الحاخامين الأكبرين لإسرائيل حيث قال "كلي ثقة بأن ما حدث خلال العقود الأخيرة في العلاقات بين اليهود والكاثوليك، كان عطية حقيقية من الله، ومن بين العظائم التي صنعها". وأضاف" نحن مدعوون، كمسيحيين ويهود، إلى أن نتساءل بعمق حول المعنى الروحي للرباط الذي يجمعنا". ولعل الأكثر حساسية من بين المواقع التي زارها الضيف المسيحي، كانت زيارة البابا إلى المسجد الأقصى وحائط البراق، أو ما يسميه اليهود الحائط المبكى، حيث التقى في المسجد شخصيات فلسطينية على رأسها مفتي القدس والديار الفلسطينية، الشيخ محمد حسين الذي عرض عليه الوضع في مدينة القدس والأقصى. وهنا في الأقصى قال البابا "يتوجه فكري في هذه الأثناء إلى إبراهيم، الذي عاش كحاج في هذه الأراضي، فالمسلمون والمسيحيون واليهود يرون في إبراهيم، ولو بطرق مختلفة، أبًا في الإيمان، ومثالاً كبيرا يُحتذى به، فقد أصبح حاجّاً بعد أن ترك أهله وبيته ليخوض هذه المغامرة الروحية التي دعاه إليها الله". أما في حائط البراق، أو ما يسميه اليهود الحائط المبكى، ويسميه المسيحيون الحائط الغربي، فقد التزم البابا الصمت واكتفى بكتابة عبارات وضعها في الجدار الذي يعتبر الأقدس لليهود. المحطة الأخيرة في جولته كانت في ما يسميه المسيحيون "عليّة صهيون" أو الغرفة التي تناول فيه المسيح عليه السلام العشاء الأخير وهو الموقع ذاته الذي يعتقد اليهود أن فيه قبر الملك داود، وهو أيضاً الموقع الذي تقول عائلة الدجاني المقدسية إنه وقف إسلامي لها. ووسط إجراءات إسرائيلية مشددة ، بعد تهديدات متشددين يهود بمنع البابا من الوصول إلى المكان ، ترأس البابا قداس الإلهي مع رؤساء الكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدسة في تلك الغرفة، ومنها غادر تاركاً منطقة تعتبر الخلافات الدينية فيها أحد أسباب استمرار صراع طال أمده على أرضها. وفيما اعتبره الفلسطينيون رداً إسرائيلياً على وقفة البابا أمام الجدار في بيت لحم ، فقد أقرت بلدية القدس الإسرائيلية إقامة 50 وحدة استيطانية في مستوطنة (هار حوماه) المقامة على أراضي جبل أبو غنيم ، جنوبي القدس، وذلك أثناء وجود البابا في القدس، لتكون الهدية الإسرائيلية ل"رحالة السلام" بابا الفاتيكان على زيارته للأراضي المقدسة.