جانب من حفل التوقيع محيط - شيماء عيسى شهد نادي القصة المصري الأربعاء الماضي ، ولأول مرة حفلة توقيع للجزء الأول من سيرة الروائي المصري الكبير فؤاد قنديل والصادرة مؤخرا عن دار "الهلال" بعنوان " المفتون" ، حضرها عدد كبير من النقاد والأدباء والصحفيين المصريين ، وكتب فؤاد قنديل في مقدمتها كلمات شريفة فتحي التي تقول " لست الملاك ولا الرجيم وإنما ... بعضي على أرضي وبعضي في السما ... ويل لنور في السماء إذا ارتمى ... أرضا وطوبى للتراب إذا سما " . وتساءل في المقدمة : " .. من أنا ؟ ومم خلقت ؟ ولماذا أتصور إمكانية أن يكون شخصي المتواضع رواية ؟ هل لأني عشت نحو ثلثي قرن واستهلكت جبلا عاليا من الأشياء ؟ .. هل لأني تعاملت مع قمم السلطة وعاشرت المشردين والسوقة ، وضربت في عدة مظاهرات ، أم لأن لي قصصا كثيرة مع النساء ؟ ام لازدحام حياتي بقصص النجاح والفشل؟ أم بسبب ما تجمع لدي من معرفة هي خلاصة قراءة ما لا يقل عن عشرين ألف كتاب ؟ أم لأني أعشق الحب والحرية والطبيعة والإنسانية وأقدس العمل والجمال والخيال ، إذ الدنيا دون كل ذلك غابة ومهزلة ومقبرة وجحر للعفونة ومرتع للديدان؟ .." السيرة بين العرب والغرب وقال الأديب في حفلة توقيع سيرته ، أن كتابة السيرة معروفة منذ القدم بالأدب العربي ، ولكنها كانت تقتصر على التراجم ، أي كتابة شخص لسيرة آخر من الأعلام ، وأشهرها من كتبوا السيرة النبوية الشريفة ، ولكن أن يكتب الشخص نفسه سيرته الذاتية فهذا ظهر منذ نحو مائتي عام فقط أي مع نشأة الرواية في العالم ، وظهرت بداية في شكل اعترافات ويمكن أن نتذكر بهذا الصدد ما كتبه كل من جان جاك روسو ، والقديس اوغسطين ، وعدد كبير من الرسائل والمذكرات ، وفي العالم العربي وجدنا مذكرات طه حسين " الأيام" ولويس عوض " اوراق العمر" وما كتبه د. محمد عناني " واحات العمر " وسيرة الدكتور شكري عياد ، غير أن أغلب ما كتبه العرب كان نمطيا تقليديا لا يكشف عن أشياء مخبوئة بحياة من كتبوها ، وكانت تميل لتصويرهم في صورة الإنسان المكافح صاحب المباديء والذي دوما يتخذ القرارات الصحيحة ، عكس ما كان الغرب يكتبونه ، فنقرأ بمذكرات أينشتاين أنه كان من اسوأ التلاميذ بالفصل ، وتألقت مذكرات رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل والتي نال عنها وحدها جائزة نوبل ، وجان جينييه وغيرهم . غلاف السيرة وبذا تتضح أهم وأول صفات السيرة الناجحة ، المصداقية والمكاشفة ، وبالتأكيد لابد أن يكون المؤلف معروفا للدرجة التي تجذب القاريء لشراء سيرته الذاتية ومحاولة معرفة كيف وصل لهذا النجاح ، وهذا ما يمكن أن نقوله على مذكرات الأديب الكولومبي العالمي ماركيز الذي كتب " عشت لأروي" وأصبحت من أكثر الكتب مبيعا حول العالم . اما الصفة الثانية للمذكرات الناجحة فهي ألا يعمل صاحبها فيها الخيال ، فالصدق أساسها ، ويكون الأفضل أن تكتب بصورة أدبية ، واعتقد الأديب قنديل أن ما كتبه محمد شكري ب " الخبز الحافي " ليس حقيقيا ، الامر الذي رأه عدد كبير من النقاد ، إذ أن مذكراته الأكثر مبيعاُ والمشهورة بذكرياته عن سرقات ونزوات جنسية فجة تحتاج لعشرة مجرمين . ،، عبدالناصر خاطبني كأنني عضو بمجلس قيادة الثورة ،، كتب السيرة لابد أن تتسم أيضا بالإنتقائية فأنا لا أسجل كل أيام حياتي بالطبع ، ولكنني انتقي منها الأيام التي شهدت احداثا هامة على المستويين القومي والشخصي ، وفي سيرة "المفتون" رأى كاتبها فؤاد قنديل ، أن احداث حياته الشخصية في الخمسينات والستينات كانت شبيهة إلى حد كبير بمصر ؛ فقد عاش مراهقته بالخمسينات وكانت أيضا مصر تعيش المراهقة السياسية ، وفي عام 1961م رسب فؤاد لأول وآخر مرة بحياته ، وحدث الإنفصال بين مصر وسوريا وكانوا يعتبرونه أمل العرب في التحول لدولة كبرى ، ووجد الكاتب فؤاد قنديل أن الكآبة هيمنت على خطاب الزعيم جمال عبدالناصر وكتب له ذلك بالصحافة ، فرد عليه الرئيس " وكأنه يتحدث مع عضو بمجلس قيادة الثورة" ، وقال له : ألست معي أن المستقبل لن يسمح للكيانات الصغرى أن تعيش ؟ ، وقال قنديل متعجباُ كان عبدالناصر يتحدث مع طالب راسب بهذه الصورة ، ثم يتابع أنه مع نكسة 1967 حدثت له على المستوى الشخصي انتكاسات كثيرة عاطفية . وعلق فؤاد قنديل على عنوان سيرته الجديدة بعنوان " المفتون" بأنه كان منبهرا طول حياته بأشياء كثيرة ، وأولها القراءة ، وكان يحب أن يقرأ لطه حسين وسلامة موسى والمازني ، وتساءل حينها كيف استطاعو صياغة هذه العبارات الجزلة ، كما أنه بهر بجمال عبدالناصر ورأى كيف كانوا بالصين – وقت إقامته هناك – ينظرون له بعد تأميم القناة ، وبعد بناء السد العالي ، والمشروعات الثورية الكبيرة ، كما بهرته المرأة وعلى الأخص جدته ووالدته ؛ الجدة كانت تقول للعمدة في القرية " ياولد " فينزل لها من على حصانه فورا ، وامه كانت لها هيبة من الصمت وبعينها تستطيع أن تدير البيت كله وتعلم صغارها الصواب من الخطأ ، واعتقد أن المرأة المصرية "كيان خرافي" تصحو من الفجر وتعتني بأولادها وزوجها وبيتها وتذهب لعملها لتسقط ليلا طريحة الفراش ، انبهر فؤاد قنديل بالسينما أيضا وعمل باستوديو مصر . الغرب يغفر لك أي شيء إلا .. الكذب وعلى ذكر مسألة الصراحة عند الغرب ، التقى الكاتب بنظير أمريكي له بأمريكا ، وكان الكاتب الغربي قد ذكر بسيرته المنشورة أنه لقيط ، أي ابن سفاح ، وسأله قنديل : كيف استقبل النقاد والقراء هذا الكلام ؟ ، فرد : بإعجاب لأنه رأوه صادقا ، الأمر الذي يذكرنا بفعلة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون الذي أدين ليس لممارساته المشينة مع عشيقته ولكن لأنه كذب في البداية ولم يقل أن ذلك قد حدث ، أنا بالنهاية أسعى لتقديم أدب اعتراف محترم ، الحديث لقنديل، كما أسعى للإضافة لمن سبقوني لأن المدرسة العربية لا تعرف التراكمية وكل منا يبدأ من الصفر . عبدالرشيد المحمودي وفي مداخلة للكاتب والأديب عبدالرشيد محمودي ، والذي عمل بالأمم المتحدة ، له العديد من الكتب في مجال الفلسفة ، قال تعقيبا على سيرة " المفتون" أن جو جونييه الأديب الفرنسي بلغ من صراحته أن أطلقوا عليه "القديس" ، ورغم أنه كان سيء "أخلاقيا" ، فإنه ألف كتابا يعد أفضل ما كتب عن فلسطين وحقوق أهلها واغتصاب إسرائيل لها ، من واقع تجربته بالمعسكرات الفلسطينية ، ولكن عندنا وجدنا السير مثل رحلة ابن بطوطة ، إلا أنها كانت رتيبة سردية مليئة بقصائد المدح ، ومذكرات يحيى الجمل وصديقي جلال أمين ولويس عوض ، وما يلفت الإنتباه هو انتشار ظاهرة أدب السيرو الاعترافات لدينا . واستدرك الكاتب فؤاد قنديل قائلا : مشكلتنا أننا في الشرق والعرب عموما لا نقدر قيمة الصدق ، ونعتبر أنه يعيب الكاتب ذكره لأصله المتواضع او صراحته بالسيرة وسرده لأخطائه ، ما يثيرك أن غالبية المتفوقين لدينا خرجوا من أسر متواضعة للغاية ، ولا يذكرون ذلك بمذكراتهم ، فكيف سيستقبل الناس ما كتبه في " المفتون " أنني كنت أهرب من الكمسري بالقطار لأشتري بكل مصروفي كتبا من سور الأزبكية ، كما عاب على تلك المذكرات التي كتبها رجال الثورة لأنها هدفت لتحسين صورتهم أمام الإعلام أو نفي تهم عنهم بالعمالة مثل مذكرات أشرف مروان ، ولم تتمتع بالمصداقية . وبسؤاله عن أهم الإنتقادات لعالمنا العربي ومشهده الثقافي ، قال أولا أن الدين المستنير الحقيقي غاب عنا ، ثانيا أننا تخلفنا وخاصة بقطاع التعليم ولننظر للتجربة الموريتانية لنتأكد من ذلك ، وثالثا أننا لا نعرف كيف نكتب ، ولننظر لكل هؤلاء المسجونين وكل من خاضوا الحروب دفاعا عن الأرض ، كم منهم أعد مذكرات صالحة للنشر ، معتقدا أن ذلك كان سيكشف حقائق مخفية ، فحقيقة التوغل الأمريكي بفيتنام وخسارتها لم تكشفها إلا مذكرات الجنود الامريكان هناك .
"خبطة الوعي" من "المفتون" نقرأ مقطع من أول فصول السيرة " خبطة الوعي" : " ... أفقت من نومي العميق على لكزة مفاجئة ، سمعت اخي الكبير يتساءل مستنكراُ : - كيف تنام وعبدالناصر يطلقون عليه الرصاص؟! - هذا هو اليوم الذي يتعين أن أبدأ به ، لأني استيقظت فيه من نومي الجسدي ومن شبه غيبوبة استمرت لنحو عشر سنوات منذ ولدت ، كان ذلك في أحد ايام أكتوبر 1954. كانت سني الطفولة مجرد زورق يسبح فوق مياه راكدة بلا ريح ، والعالم من حولي داخل شرنقة من الضباب والغمام والدخان . لكزة عجيبة ، لازلت أتحرك وأصعد وأهبط وأرضى وأغضب وأذوب توقا للمعرفة بتأثيراتها ومن قوة تحريضها الأسطورية .. هل أنا وحدي من طالته مثل هذه اللكزة ؟ ام كل البشر ؟ وماذا نكون بدونها ؟ اللكزة الأولى كانت بالطبع عند هبوطي الاضطراري طازجا على أرض الحياة المدهشة . لكزة 1954 شقت عيوني ونقرت بقوة على زجاج قلبي وكل جوارحي ، تسأل وتفتش ، في محاولة شبقة ومحمومة لتمسك بغير المنظور قبل المنظور ، لكزة فجرت ولعا للمعرفة ومعانقة العالم لا تزال فورته تتنامى وتتأجج ، كالنار في الموقد كلما ألقيت إليها بقطع الخشب علا لهيبها وأضاءت وبثت الدفء فيما حولها . كنت تعلم أيها الصبي بشكل ضبابي أن عبدالناصر ، ذلك الشاب المصري الذي يشبه الحربة المقدسة ، قد اقتحم الفضاء الإنساني المتكلس وقاد ثورة مع إخوانه ضد الملك وقاموا بتوزيع الأرض على الفلاحين البؤساء ، الذين لا يدرك أحوالهم بدقة شباب اليوم ، هؤلاءالفلاحون الذين تمت ملاحقتهم بقسوة الفقر والحرمان والتنكيل والحصار ، وتم مص دمائهم بشتى الوسائل، غير إنساني بالمرة أن ننسى هذه الأوضاع ونحن في أحضان البيتزا والكنتاكي والهوت دوج . لم تكن تعلم أن هناك طبقات متراكبة من السلطة تبدأ من الخفير إلى شيخ الخفراء ثم العمدة وعساكر المركز وضباطه ، ثم مدراء الأمن وكافة أفراد السلطة الرسمية ، وهناك طبقات متراكبة من السلطة الرأسمالية بدءا من الخولي وناظر العزبة وأولاد الإقطاعي وسائقه وخادمه ، والإقطاعي نفسه ، وبعد أن كبرت أدركت ذلك وأصبح من السهل عليك أن تقول : - ليس من حق أحد أن يتحدث عن الثورة إلا إذا كان يعرف جيدا أحوال البلاد قبلها ... " . ** عن الأديب فؤاد قنديل ، مواليد القاهرة 1944 ، حصل على ليسانس الفلسفة وعلم النفس عام 1968، أصبح عضوا لمجلس إدارة اتحاد الكتاب ، عام 1984.، ثم الأمين العام للأمانة العامة لأدباء مصر فى الأقاليم مرتين ، عامى 1993 ، 2000. شارك فى العديد من المؤتمرات والأنشطة الثقافية فى عدد كبير من الدول العربية والأجنبية منها : لبنان ، ليبيا ، السعودية ، الصين ، إيطاليا ، مالطة ، المغرب ، العراق ، تونس. الإنتاج الأدبى : من رواياته : " السقف " – " روح محبات " – " الحمامة البرية " ، القصص القصيرة , ومنها " عقدة النساء " – "العجز " – " زهرة البستان " – " شدو البلابل والكبرياء " – " الغندورة" –" عسل الشمس " ، كما كتب قصص للأطفال والعديد من الدراسات الادبية . حاز العديد من الجوائز وكان آخرها : جائزة نجيب محفوظ من المجلس الأعلى للثقافة ، عام 1994 ، جائزة الدولة للتفوق فى الآداب من المجلس الأعلى للثقافة ، عام 2005