هل هو حقا روائي من نوع خاص كما قال بعض النقاد, منهم علي الراعي, وشكري عياد وسناء فتح الله وغيرهم؟ وهل هو كذلك حسب ماكشفت مقالات نقدية تناولت كتاباته التي غامرت مع الواقعية السحرية وحلقت مع الفانتازيا وتوارت خلف الرمزية؟ هل هو روائي من نوع خاص لأن عالمه الروائي والقصصي, مغلف بلغة شعرية رفيعة قادرة علي التصوير والتجسيد تسهم في رسم الشخصيات المحتشدة بالحياة الحافلة بالتناقض المفضي إلي السخرية, سخرية لا تدين بقدر ما تعمق الاحساس بفداحة ذلك التناقض وطرافته. هذا الحوار يدور مع المفتون فؤاد قنديل كما سمي نفسه في سيرته الذاتية التي صدرت قبل شهور. * ما السبب الذي جعلك تفكر في كتابة سيرتك الذاتية؟ هناك دافعان. أولا احساسي بأن حياتي فيها ما يستحق ان يقدم للقراء, بمعني أن بها أحداثا كثيرة ولافتة تستحق التوقف والتأمل. وأيضا احساسي بأن ثمة توافقا بين سيرتي الذاتية خاصة في الخمسينيات والستينيات وظروف مصر السياسية والاجتماعية. ففي الوقت الذي كنت أعيش فيه مراهقتي العاطفية والشخصية كانت مصر أيضا تعيش مثل هذه المراهقة وبالمصادفة حدثت لي أشياء في نفس الأعوام التي تعرضت فيها مصر لحوادث حاسمة في مسيرتها السياسية. فهناك أحداث شخصية متوازية مع أحداث عام1956 والوحدة1958, والانفصال1961 وأيضا1967 ووفاة عبدالناصر1970, شكلت بعض المحطات في مسيرة حياتي ومن هنا تحمست للكتابة عن الخاص في منظومة العام. والدافع الآخر هو عدم رضائي عن كتابة السير الذاتية في العالم العربي وأري انها ليست في مستوي السير الذاتية الأجنبية وأن فن السيرة العربي لا يستطيع أن يصبح فنا راسخا يوازي الرواية وقد يتفوق عليها والمفترض أن يكون كذلك لأن معظم ما قرأت ليس فيه جسارة الاعتراف ولا تقنيات في التشكيل والصياغة ولا عرض لمواقف لافتة ودرامية. فكل ما قرأته من السير العربية عادي للغاية ولا يمكن أن توازي سيرة جان جاك روسو أو سارتر وغيرهما. * هل معني هذا أنه يجب أن يكون هناك ارتباط بين الأحداث الشخصية والأحداث السياسية؟ ليس شرطا ولكن حسب الأحداث الشخصية ومدي انسجامها أو انطلاقها من مواقف عامة سياسية أو غير ذلك. * اطلقت عليها اسم المفتون:.. فما مغزي هذا العنوان؟ اخترت هذا العنوان لأنه يصورني بشكل دقيق في تلك الفترة من الخمسينيات والستينيات, لأنني منذ عام1954 فتنت بشخصية عبدالناصر, ثم فتنت بالكتب, وبعدها بالسينما, ثم بالمرأة, وفي مقدمتهن أمي التي اكتشفت من خلالها العالم. * اللافت للنظر ان اسلوبك يتمتع بالجرأة غير المسبوقة في الاعتراف بالأخطاء والنقائص التي اعتاد الجميع في سيرتهم الذاتية تجاهلها أو اخفاءها. فما سر هذه الجرأة؟ أقدمت علي هذه الجرأة لحساب فن السيرة الذاتية. أي أنني قررت أن أنسي وأتجاهل ما يمكن ان أتعرض له من نقد شديد خاصة من أسرتي, وأيضا رأيت ان فن السيرة الذاتية أهم من عتاب أسرتي, وأن هذا الفن يجب ان ينهض ويزدهر في كثير من البلدان فلماذا لا نعطيه حقنة منشطة كي يعثر علي مكانته مثل الرواية. وأنا مؤمن أن كثيرا من الكتاب لديهم اسرار تملأ كتبا. * مجموعتك القصصية سوق الجمعة تعد تجربة فريدة لأن قصصها دارت جميعها في مكان واحد. فلماذا اخترت هذه المنطقة بالتحديد؟ في البداية كانت الرغبة أن تكون رواية, لأنها تدور جميعها في سوق الجمعة, ويمكن جمعها في رؤية تشير إلي المجتمع المصري, فهي مؤهلة تماما لأن تكون رواية ولكن حاولت أن أقاوم هذه الرغبة فقد أحسست بالاشفاق علي فن القصة القصيرة التي تعاني من التهميش ولذلك حاولت أن أجعلها مجموعة قصصية منفصلة متصلة وأظن أنني حققت بعض الفائدة لأنها فيما أعلم المرة الأولي التي تكتب فيها مجموعة قصص عن موقع واحد من زوايا مختلفة. واخترت هذه المنطقة بالمصادفة عندما دعاني أحد الأصدقاء لشراء عصافير فذهبت معه, وكنت أسمع عن هذه السوق, ولكني لم أكن أتصور أنها بهذا القدر من الجاذبية والاحتشاد, فقررت أن أزوره مرة أخري بمفردي. ولفتت نظري بعض الشخصيات الحقيقية من الباعة ومن الزوار بل والسلع من الحيوانات, وكنت أشعر بأنها تنفذ إلي اعماقي, وأشعر إزاءها بأنها بحاجة ملحة لأن تعبر عن ذاتها. * وماذا تمثل لك هذه المجموعة؟ هذه المجموعة كافأتني لأنني قررت ألا أكتبها رواية وأكتبها قصصا قصيرة وجعلتني أشعر بسعادة غامرة لأنها ردتني بالفعل إلي فن القصة القصيرة الذي غبت عنه وغاب عني سنين طويلة وكنت أشعر بالحيرة وبالذنب لأني انصرفت عنه إلي هذه الدرجة ولذلك انهمرت هذه القصص كأني أكتبها بشوق غير عادي ولهفة لم أشعر بها من قبل إزاء أي قصة قصيرة ومضيت أكتب بعدها قصصا أخري, وأصدرت بالفعل مجموعة رائحة الوداع وهناك مجموعة أخري في الطريق اسمها حدثني عن البنات. * كتبت روايات كثيرة مثل السقف, وعصر واو, وروح محبات, وحكمة العائلة المجنونة وغيرها فبما أنك قاص وروائي, لماذا تحظي الرواية بكل هذا البريق؟ السبب كثرة التشجيع وتعدد الجوائز, ولو حدث هذا للقصة القصيرة لفاقت الرواية وهذه مسئولية الكتاب, فعندما كانت هناك كوكبة متألقة من كتاب القصة في الخمسينيات والستينيات كانت القصة في المقدمة رغم المجد الذي حققته الرواية علي أيدي احسان عبدالقدوس ويوسف السباعي ونجيب محفوظ. لذلك أنا أثمن غاليا توجه المجلس الأعلي للثقافة نحو القصة بتنظيم ملتقي القصة القصيرة كدعوة للتذكير بهذا الجنس الأدبي الذي يتمتع بدرجة عالية من الفن والتكثيف. * وما رأيك فيما يقال عن تراجع أهمية الأدب؟ لم تتراجع أهمية الأدب في أي مكان في العالم, لأن الأدب والفن الرفيع مسئولان عن بناء الانسان وجدانيا وفكريا, أما باقي المجالات فتبني الانسان من الخارج, والفرق واضح. وتراجع أهمية الأدب إذا حدث لا يكون إلا اذا كثر المسئولون الذين لا يميلون إليه ولا يقدرون قيمته وأثره الفريد في مسيرة التقدم, وتاريخ الأدب ومفكروه يشهدون بأن الأمم تنهض إذا كان قادتها قد أقبلوا علي الأدب الملهم ولو في مرحلة من أعمارهم. * وما أهميته بالنسبة لك؟ الأدب زادي الروحي ومعيني الأول علي احتمال الحياة, وسلاحي الذي به أحارب اليأس وأعمالي الأدبية هي بذوري التي أحاول غرسها من أجل توسيع مساحات الجمال والحب والأمل. * وما الذي ينقص الحركة الثقافية كي تزدهر؟ ينقصها اهتمام الإعلام بالأدب, والتشجيع عليه في المدارس وانتاج افلام ومسلسلات عن الروايات والقصص, واصدار مجلة نقدية, وتوصيل الكتب إلي القراء في المدن الصغيرة, فضلا عن ضرورة تذليل العقبات أمام ترجمة الأدب المصري إلي اللغات العالمية, لأن الأدب العربي بلغ درجة من النضج تؤهله كي يحتل مكانة مرموقة بين الآداب العالمية مثل أدب امريكا اللاتينية. لكن لن يحدث هذا طالما ليس هناك مشروع دائم وقوي لترجمة الانتاج الأدبي المصري. * وكيف تري الحركة النقدية؟ هي جزر صغيرة للغاية لا تظهر علي الخريطة, وأكثر النقاد بلا منابر ومساحات النشر في الصحف قلت للغاية, والحركة الأدبية تمضي في الأغلب علي ساق واحدة هي الابداع, الذي يمضي بخطي واثقة جديرة بالمؤازرة والتشجيع.