بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الشعب الفلسطيني عندما قررت القيادة الفلسطينية الانضمام إلى خمسة عشر معاهدة واتفاقية دولية، ردا على القرار الاسرائيلي بعدم الإفراج عن الدفعة الرابعة من الاسرى وتنصلها من الاتفاق حول ذلك وفي الموعد المحدد. القرار الفلسطيني يعني التحرر من إملاءات القوة الإسرائيلية وشروط الابتزاز والمساومة ، وإعلاء لقيمة الإنسان الأسير المناضل ولكرامته وكبرياءه الوطني، والتحرر من القوانين العسكرية الإسرائيلية ومفاهيمها العنصرية في التعاطي مع الإنسان الأسير كمجرم وجنائي وانتهاكها لأعراف وقواعد القانون الدولي الإنساني. اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 أصبحت الآن داخل الزنزانة رقم 28 ، زنزانة مروان البرغوثي وكريم يونس وناصر أبو سرور وجمعة آدم ومحمد الطوس ورائد السعدي وضياء الآغا وغيرهم من الاسرى المعتقلين منذ ما يزيد عن ربع قرن. الاتفاقية التي لم تعترف إسرائيل بانطباقها على الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، تم اغتيالها علنا منذ بداية الاحتلال عام 1967، وذلك لسحق الكفاح الوطني للشعب الفلسطيني وشرعية نضاله ومقاومته للاحتلال، وضربت إسرائيل بذلك عرض الحائط بأكثر من 185 قرارا صادرا عن الأممالمتحدة تؤكد على حق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف في تقرير مصيره، وتعتبر الأراضي الفلسطينية أراضي محتلة وليس أراضي متنازع عليها. داخل الزنزانة 28، بدأ مروان البرغوثي يقرأ مواد وأحكام اتفاقيات جنيف الأربعة والبرتوكولات الملحقة بها أمام السجانين،قائلا: بعد أن أصبحت مرجعية أي تسوية سياسية للصراع أو أي سلام عادل بالمنطقة هي مرجعية القرارات الدولية وميثاق الأممالمتحدة، وصار الاسرى أسرى دولة فلسطينالمحتلة، واعتراف العالم بمشروعية كفاح الشعب الفلسطيني، حان الوقت لإلقاء المفاتيح وكسر القيود وانتشال الضحية من صمتها الطويل. مروان البرغوثي يحاكم ضباط ومسؤولي إدارة السجون وطواقمها الطبية ومن يقف وراءها من قيادات في تل أبيب، وهو يستعرض مواد تجريم ممارسة التعذيب بحق الاسرى و الأحكام الجائرة واعتقال الأطفال، والاعتقال الإداري التعسفي، والإهمال الطبي، واعتقال النواب ، ويعلي صوته أكثر كلما توقف عند نص من نصوص الاتفاقيات الدولية. سأقف، قال مروان لأحدثكم أيها الجلادون عن أسرى قتلوا مرضا وقهرا وضربا و تعذيبا، عن موتى حجزت جثثهم سنوات طويلة، عن أسرى عسكريين لا يجوز محاكمتهم حسب اتفاقيات جنيف، وعن مرضى يجب أن يعودوا إلى بيوتهم،و عن لجنة تقصي حقائق سوف تشكلها الدول الأطراف في اتفاقية جنيف قريبا. الآن صار للجدران أصابع تتحسس أضلاعي عندما لم تصدقوني أنكم أصبحتم دولة عنصرية، وها نحن دولة فلسطين ننضم إلى اتفاقية مناهضة كل أشكال التمييز العنصري لنهدم الجدران ونشطب شوارعكم الالتفافية وعلامات الرفاهية لدولتكم التي تتعالون من خلالها على الآخرين. الآن أصبح للأبواب الحديدية السنة تتكلم باسمنا كبشر ومحاربين قانونيين وليس إرهابيين، أجازت لنا قرارات الأممالمتحدة وبرتوكولات اتفاقيات جنيف الثورة والمقاومة على المحتل، ووضعت الاتفاقية قواعد لحماية إنسانيتنا ومياهنا وأرضنا من أعمالكم القمعية والوحشية. وقريبا سننضم إلى النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية لنلاحقكم في كل مكان ، ونسألكم أمام قضاة العالم عن المسؤول عن قتل ميسرة أبو حمدية وعرفات جردات، وأسباب مرض السرطان المزمن في جسد فواز بعارة ومعتصم رداد ،وعن طعم الهواء في سجونكم عندما يحقن بالغاز السام. داخل الزنزانة 28 خلع الأسير الكابتن كفاح حطاب قميص إدارة السجون، ونادى بأعلى صوته انه أسير حرب حسب اتفاقيات جنيف الثالثة ، واقترب محمد الطوس من شباك الزنزانة يحمل ملابسه وذكرياته ليعود إلى زوجته أم شادي الراقدة في غيبوبتها الطويلة. مروان البرغوثي يحاور قادة تل أبيب قائلا: أخذنا دولة فلسطينية حرة ومستقلة عاصمتها القدس بالقانون الدولي وبإجماع العالم، ولم نأخذها بالمذابح وسرقة الأراضي وبناء المستوطنات وبالحواجز العسكرية، وانتم أخذتم دولتكم بالحرب والدم، ومازلتم تبحثون لها عن هوية إن كانت إسرائيلية أم يهودية، غارقين في القلق الوجودي وسؤال الضحية. لا تريدون أيها الإسرائيليون أن تقام دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولتكم بالمفاوضات والسلام والحوار، والآن أعلن عن دولتنا فوق معسكراتكم وحرابكم وقوتكم النووية، وتفوقت أخلاقنا وثقافتنا وقدرتنا على الصمود، لنصبح دولة سامية تحترم وتلتزم بالاتفاقيات الدولية، وانتم لا زلتم دولة محتلة معادية ومتوارية. كل الأحكام التي أصدرتها محاكمكم العسكرية الآن أصبحت لاغية، قال البرغوثي، وكل ضباطكم الآن أصبحوا مطاردين حسب الاتفاقيات التي وقعنا عليها، وأصبحنا نحن المنقذ لكم أن أردتكم أن تعيشوا بسلام معنا أو أن يعود جوناثان بولارد لكم، أو أن تكونوا دولة طبيعية في هذا العالم. نحن لم نشن حرب إبادة على قطاع غزة لنقتل الآلاف من السكان ونحرقهم بالفسفور الأبيض لأجل إعادة الجندي شاليط، ونحن لم نعلن عن جوائز بقيمة الملايين لإعادة جنود لكم اختفوا خلال الحرب على لبنان في الثمانينات، نحن نعيد أسرانا وفق القانون الدولي الإنساني ومن خلال المسؤوليات المترتبة على الهيئات الدولية إزاء ذلك بلا قطرة دم، ونهيئ وطننا جيدا للحياة وليس للموت. دعوني أيها الإسرائيليون لأحدثكم عن مشاعري الآن، لقد أصبح للهواء نكهة الهواء وللحب طعم الحب وليس اغتيال الأمنيات، للنوافذ الآن عيون خمسة آلاف أسير ترى القدس وجبال الكرمل، نرى الدنيا أكثر منكم، ونراكم مشغولين بالتصدي للقرارات الدولية التي تدينكم وللمؤسسات التي تقاطعكم ولقتلاكم الذين ماتوا هدرا من اجل مستوطن يكره دوالي العنب. دعوني أقول لكم: خرجت صورتنا للآخرين بيضاء بيضاء ليس عبر فوهة بندقية سوداء، ولا بالاحتيال أو القرصنة والمساومة المذلة، صورتنا صعدت إلى سماء أليفة تبشر بالماء على هذه الأرض وليس بالقنابل والدم. في الزنزانة 28 في سجن هداريم تحركت اتفاقيات جنيف الأربع ، وتشابكت بأحكامها مع ثورة عالمية: الكيان أصبح دولة، الاسرى صار لهم صوت واضح وهيبة، وكنيسة المهد أصبحت موقع للتراث العالمي، القدس عاصمة دولة فلسطين، وظهر الاحتلال طويل الأمد قصير الأمد.