لم ترضخ أم أحمد، الحاجة الثمانينية، وحتى بعد مرور 28 عاما على اختطاف وحيدها خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية (1975 : 1990)، لمحاولات المسؤولين المتكررة اقناعها بأن ولدها توفي ولا سبيل لمعرفة كيفية مقتله. فهي ومئات الأمهات والأرامل الأخريات لا زلن يعقدن الأمل على معرفة مصير أحبائهن بالرغم من اقتناع عدد منهن بأنّه قد تمت تصفيتهم. ورغم تقدمها في السن وكثرة الامراض التي تعانيها، تواظب امينة عبد الحصري (أم أحمد)، على زيارة الخيمة التي نصبها منذ عام 2005 عدد من أهالي 17 ألف لبناني فقدوا خلال الحرب الأهلية، وسط العاصمة بيروت امام مبنى "الاسكوا" (لجنة الأممالمتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا) . هناك تلتقي أم أحمد بمن يشاركها ألمها ومأساتها التي تتضاعف مع مرور الأيام، خاصة وأنّها فقدت زوجها ايضا خلال الحرب وتعيش وحيدة أسيرة الذكريات والصور. بجانب الخيمة، جلست أم أحمد بعباءتها الزرقاء تمسح الغبار عن صورة وحيدها المفقود. لا غبار عليها ولكنّها تصر على ان تمسحها متأملة ملامح افتقدتها كثيرا، تعلم تماما أنّها لن تراها مجددا، فاحساسها كأم يجعلها متأكدة ان ولدها قضى في أحد السجون. ما تريد أن تعرفه أم أحمد اليوم هو معلومات بسيطة عن ظروف مقتل ابنها يحق لأي أم أن تعرفها، أين توفي وكيف وبأية تهمة تم خطفه وتصفيته. وقد تتحقق أمنية الحاجة الثمانينة قريبا بعد قرار صدر مطلع الشهر الحالي عن مجلس شورى الدولة المتخصص بالرقابة على مشروعية الاعمال الادارية للسلطات العامة، يمنح أهالي 17 ألف لبناني مفقود حق الاطلاع على نتائج التحقيقات التي أجرتها لجنتان شكلتهما الحكومة اللبنانية لتحديد مصيرهم. وتم تشكيل اللجنة الأولى عام 2000، وتلقت ملفات من الأهالي على مدى ستة أشهر، وأعلنت في تقريرها أن ثمة 2,046 حالة من المفقودين، وأن اياً منهم لم يكن على قيد الحياة، ونصحت عائلاتهم بإعلان وفاة المفقودين، من دون تقديم اي دليل على الوفاة، وبالتالي فان معظم العائلات لم تتجاوب مع الطلب الرسمي اللبناني. أما اللجنة الثانية، والتي تشكلت عام 2001، فعملت لمدة 18 شهرا ونظرت في نحو 900 حالة ولكنها لم تصدر اي تقرير يلخص نتائج تحقيقاتها. وتنتظر أم أحمد نتائج التحقيقات بفارغ الصبر، وهي التي لا تزال تتذكر تفاصيل تلك الليلة المريرة عام 1986 التي اختطف فيها ابنها. وقالت، في حديث مع وكالة الأناضول: "ذات ليلة فيما كنا في منزلنا الواقع في منطقة الرملة البيضاء في بيروت، وبعد منتصف الليل، طرق عدد من الاشخاص الباب علينا، واقتادوا احمد الى برج المر." وهو مبنى مشهور في العاصمة استخدم خلال الحرب كقاعدة عسكرية ومركز اعتقال. بعدها تم نقل أحمد الى مكان آخر لم تتمكن والدته من تحديده، "وبعد 7 اشهر من اختفائه اكتشفت انه تم تسليمه الى السوريين ونقل إلى فرع التحقيق العسكري في العاصمة السورية دمشق"، بحسب الأم. وتجزم أم أحمد ان ولدها لم يقتل مشنوقا ولا مقتولا بالرصاص، وإنما "مات من الجوع، دون عيون أو اسنان...هكذا قال لي الله، فهو عند رحمة ربه". ومضت قائلة إن من اعتقل ابنها آنذاك هم عناصر من "حركة امل، التي يتزعمها رئيس المجلس النيابي (البرلمان) الحالي نبيه بري، بعدها قالوا لي إن العملية تمت عن طريق الخطأ". تساءلت: "اي خطأ هذا وانا حُرمت من ابني طوال هذه الاعوام، ناري بردت اليوم بعدما كنت أبكي يوميا عليه". وبخلاف أم أحمد، فان صونيا المعروفة بأم جهاد متأكدة أن ولدها لا يزال حيا يرزق، وهي تحتفل بعيد مولده سنويا وقد بلغ ال44 من عمره مؤخرا. وتروي أم جهاد، في حديث مع وكالة الأناضول، حادث اختطاف ولدها، بقولها إنه في عام 1990 وخلال فترة الوجود (العسكري) السوري في لبنان، كان ابنها جندي في الجيش اللبناني، "وفي احدى الليالي اختطف بالقرب من منزلنا الواقع في منطقة الحدث شرقي بيروت". وأضافت: "حينها قالوا لنا انه اصيب بجروح اثر صدامات مع القوات المسلحة السورية ثم نقل الى سوريا". وتابعت بحسرة "تعرضنا لجميع انواع الابتزاز وعملنا جاهدين للإفراج عنه ولكن جميع الطرق باءت بالفشل". ولدى أم جهاد وثائق وملفات تجعلها متأكدة بأن ابنها لايزال حيا، ف"هناك ضابط من المخابرات اللبنانية قام بزيارتي وابلغني ان ابني كان محتجزا في سوريا". وتنشط أكثر من لجنة منذ عشرات السنوات في محاولة تحديد مصير المفقودين ال17 ألفا، وعادت لتفعل تحركاتها بعد القرار الأخير لمجلس شورى والذي اعتبرته وداد حلواني رئيسة لجنة أهالي المفقودين "بمثابة سلاح قضائي وقانوني اعطانا المزيد من القوة، فلم يعد باستطاعة احد اتهامنا بتهديد السلم الاهلي من خلال طرح هذا الملف، لأنّه أصلا مهدد". واوضحت حلواني التي اختُطف زوجها عام 1982، في حديث مع الأناضول، ان تحركاتهم كأهالي بدأت عام 1982 للمطالبة بتحديد مصير "ذوينا الذين سرقتهم الحرب منا"، فكان يتم تنظيم اعتصامات ولقاءات مع السياسيين لمعرفة مصير المفقودين الذين "اختطفوا من قبل ميليشيات الحرب اللبنانية، ومن جملتهم الفصائل الفلسطينية والعدو الاسرائيلي والقوات السورية التي كانت متواجدة في لبنان آنذاك". ولفتت الى ان العائلات منعت من الاطلاع بشكل كامل على ملفات التحقيق التي أنجزتها الحكومة حول ملف المفقودين. تابعت بقولها: "ولم ينشروا منها سوى نسخة موجزة جاء فيها أنّهم لم يعثروا على أي مفقود في لبنان، وإن سوريا نفت وجود اي معتقلين لديها فيما اعترفت اسرائيل بوجود 17 شخصا فقط". وأوضحت انه ورغم أنّ التقرير الصادر عن اللجنة المختصة اعترف بوجود "مقابر جماعية" في أنحاء بيروت تم تسمية ثلاثة منها، الا ان "الحكومة رفضت وضع نقاط تفتيش أو اتخاذ إجراءات وقائية حول المقابر لعدم العبث فيها، واعتبرت الدولة انها انهت عملها بعدما اعلنت عن وجود مقابر جماعية وتم اغلاق الملف". وشدّدت على انه من "المستحيل لأي أم ان تتقبل وفاة ابنها دون وجود اي دليل ملموس، وبالتالي نحن كلجنة تابعنا النضال لأننا متمسكون بحقنا وهو حق المعرفة". ورأت أن قرار مجلس الشورى "سيسهل عملية الوصول للحقيقة ونبش المقابر الجماعية وانشاء قاعدة بيانات للتعرف على الرفات بشكل علمي ودقيق". وبعد نهاية الحرب الأهلية، وتحديدا في عام 1991، أُعلن عفو عام عن جميع الجرائم السياسية التي ارتكبت خلالها، ومنها عمليات الاختطاف التي قامت بها الجماعات المسلحة بينما بقي القانون صامتا حيال الضحايا وعائلاتهم. واعتبر رئيس جمعية "دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين في السجون السورية" (سوليد) غازي عاد، ان قرار مجلس شورى الأخير "غير مسبوق بالتاريخ اللبناني وسيكون بمثابة سلاح بيد الجمعيات والأهالي". ومضى قائلا، في حديث مع وكالة الأناضول، إن المطلوب اليوم هو إنشاء "مرجعية وطنية لبنانية لمتابعة ومعالجة هذا الملف حتى النهاية". وأوضح أن مطلب الاهالي "ليس تعليق المشانق وانما فقط اعطائهم المعطيات التي قد توصلهم للحقيقة لمعرفة مصير أحبائهم لا اكثر ولا أقل". وبموجب القانون الدولي، فان الحق في معرفة الحقيقة في حالات الاختفاء القسري والاشخاص المفقودين يشمل الحق في معرفة مصير الضحية ومكان وجودها. وتم مؤخرا الكشف عن وثائق سرية تفيد بقيام السلطات السورية بإعدام أربعة لبنانيين لم تعترف سابقا باحتجازهم. وبحسب الوثائق التي نشرتها صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، وحملت اسم "وثائق دمشق"، فإن هؤلاء الأربعة هم جزء من 600 لبناني ترفض السلطات السورية الاعتراف باحتجازهم في سجونها خلال العقود الثلاثة الماضية.