حاولت فى مقالى الماضى «العبور إلى المستقبل» أن أتوقف مؤقتاً عن تحليل المشهد السياسى المصرى الراهن الزاخر بالمشكلات العويصة على كل الأصعدة سياسية كانت أو اقتصادية أو ثقافية، لكى ألقى بنظرى إلى المستقبل من خلال طرح موضوع الرؤية الاستراتيجية، باعتبارها المهمة الأولى التى ينبغى على رئيس الجمهورية المنتخب -أياً كان- أن يتصدى لها. غير أن الدكتور «على فرج» أستاذ الهندسة بجامعة «لويزفيل» -وهو أحد قرائى الكرام المتابعين بدقة لما أكتبه- طلب منى أن أدخل معه فى حوار، وطرح على مجموعة من الأسئلة المهمة، وأنا لا أستطيع إلا أن أمتثل لطلبه احتراماً له ولمكانته الأكاديمية الرفيعة. وقد بدأ الأستاذ الفاضل حواره بالتأكيد «على أنها سٍنة عقيمة أن يستهل المرء حديثه يتأكيد حيدته وعدم انتمائه للإخوان واحترامه الجيش». وهنا بالتحديد يبدأ خلافى مع الدكتور «على فرج». فليس هناك شيء اسمه «الحيدة» فى مجال نقد الأفكار أو الدفاع عنها. وقد استقر الرأى فى العلم الاجتماعى المعاصر فى مجال حل مشكلة «الذاتية الموضوعية» على المبدأ الذى صاغه بعبقرية نادرة عالم الاجتماع الأمريكى السويدى الجنسية «جونار ميردال» فى كتابه «الدراما الآسيوية» حين قال: «الموضوعية هى أن تعترف بذاتيتك منذ البداية»! وفى ضوء هذا المبدأ أعلنت منذ التسعينيات معارضتى الكاملة لتيارات الإسلام السياسى المختلفة وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، ويشهد على ذلك كتابى «الكونية والأصولية وما بعد الحداثة» الصادر عن المكتبة الأكاديمية عام 1996. وبالتالى لا يضير الدكتور «على فرج» بالمرة ألا يكون محايداً، وأن يتبنى أطروحات جماعة الإخوان المسلمين، مادام يستطيع فى أى مناظرة الدفاع المقنع عنها. وأنا عكس ما يقول- لم أجنح مع المدّ الإعلامى الهادر فى دعم ترشيح المشير «السيسي» لرئاسة الجمهورية. وتفسير ذلك يرد إلى أن لى نظرية متكاملة فيما حدث فى 30 يونيو، حين استجاب ملايين المصريين لدعوة «تمرد». هذا الحدث لا يمثل فى نظري- «ثورة»، ولا تدخل القوات المسلحة فى 3 يوليو لدعم الإرادة الجماهيرية «انقلاب عسكري»، ولكن ما تم هو بكل بساطة انقلاب شعبي. وقد يكون غريباً أن يقوم الشعب بانقلاب ضد نظام استبدادى على أساس أن الانقلاب يرتبط بالقوات المسلحة أصلاً حين تتحرك ضد نظام سياسي، ولكن هذا ما حدث! خرج الشعب لكى يسقط نظام الإخوان المسلمين وعلى رأسه الرئيس المعزول الدكتور «محمد مرسي»، لأنه- استناداً إلى شرعية شكلية تقوم على نتيجة صندوق الانتخابات- انقلب على قيم الديمقراطية وأصدر الإعلان الدستورى الشهير الذى أعلن فيه نفسه ديكتاتوراً مطلق السراح، لا معقب على قراراته، وبالتالى أسقط شرعيته الشخصية وشرعية النظام الإخوانى بنفسه! وإذا كانت جماهير الشعب التى خرجت فى 30 يونيو اعتبرت «السيسي» بطلاً قومياً وطالبته بإلحاح بالترشح لرئاسة الجمهورية «فأنا أقبل هذه الإرادة الشعبية. وليس هناك مجال للمشابهة التاريخية بين 23 يوليو 1952 و 3 يوليو 2013. وذلك لأن الضباط الأحرار الذين ثاروا على النظام الملكى تبنوا المشروع القومى الذى وضعته القوى الوطنية المصرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، والذى كانت مفرداته الاستقلال الوطنى وإجلاء الإنجليز وأبرز ملامحه العدالة الاجتماعية. فى حين أن 3 يوليو 2013 والذى أصفه بأنه ليس ثورة ولكنه انقلاب شعبى قامت جماهير الشعب المصرى لإسقاط حكم الإخوان المستبد، ودعمته القوات المسلحة احتراماً للإرادة الجماهيرية، وحرصاً على كيان الدولة من التفتت، وعلى تكامل المجتمع من الانقسام لاحتمالات نشوب حرب أهلية بين الإخوان وجموع الشعب المصري. ويفكك الدكتور «على فرج» الشعب المصرى بطريقة متحيزة تحيزاً صارخاً، فليس هناك ما يسمى جيش «السيسي» كما زعم، ولكن هناك القوات المسلحة المصرية والتى هى درع الوطن وسيفه، وإن كان يقصد الجماهير التى تؤيد «السيسي» فمن المؤسف حقاً أن يقول إن عددها 20 مليونا منهم كما يدعى 5 ملايين صوفي، وخمسة ملايين مسيحي، وخمسة ملايين عائلات الجيش والشرطة منذ 1952 (هل هؤلاء حقاً فئة متجانسة)، وخمسة ملايين يمثلون الحزب الوطنى من قضاة وإعلاميين ورجال أعمال. ما هذه الصورة المشوهة للجماهير الوطنية المصرية، وهل صحيح أن الجامع بينها هو ما يسميه «كراهية» الإخوان المسلمين؟ لماذا لا يسأل نفسه لماذا كره الشعب المصرى جماعة الإخوان المسلمين قادة وأتباعاً بعد أن خبر ممارساتهم الاستبدادية طوال العام اليتيم الذى حكموه، والذى انتهى بسقوط نظامهم إعلاناً جهيراً عن الفشل السياسى والسقوط التاريخى لدعاوى حركات الإسلام السياسى أياً كان اتجاهها، لخلطها المعيب بين الدين والسياسة. لقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن جماعة الإخوان المسلمين نتيجة لنقص الخبرة والافتقار إلى الكوادر المؤهلة، وأهم من ذلك لغياب الرؤية السياسية البصيرة فشلت سياسياً فشلاً ذريعاً، لأن مشروع الجماعة الوهمى الذى يتمثل فى تأسيس دولة دينية مفارق للعصر، كما أن محاولة استرداد نظام الخلافة الإسلامية فيه جهل عميق بطبيعة النظام العالمى المعاصر. يقول الدكتور «على فرج»: على أى أساس سنحكم على «السيسي» وهو لم يقدم برنامجه بعد؟ عليه أن ينتظر وسننتظر معه لنرى هل له رؤية استراتيجية بصيرة أم لا؟. يقول الدكتور «فرج» مراوغاً- «السيسي» هو الجيش فهل نجح فى حل مشكلات مصر؟ وفى هذا السؤال تجاهل لحقيقة أن ثورة 23 يوليو التى حققت فى زمانها العدالة الاجتماعية لغالبية الجماهير لم تمثل «حكم العسكر»، ولكنها مثلت تحالف قوى الشعب العاملة. و«السيسي» لو انتخب رئيساً فسيكون رئيساً مدنياً لدولة مدنية، ولم يقل أحد إن «للسيسي» وجاهة «عبد الناصر» فالزمان غير الزمان، كما أن الشخصيات تختلف، ولم يدع أحد أن 30 يونيو 2013 تماثل من قريب أو بعيد 23 يوليو 1952. ولو أراد الدكتور «فرج» رأيى فى يوليو 1952 فقد كان «انقلاباً عسكرياً» تحول إلى «ثورة» لأن الضباط الأحرار تبنوا المشروع الوطنى الذى صاغته القوى الوطنية المصرية فى الفترة من 1945- حتى 1952 وكان عنوانه البارز «العدالة الاجتماعية»، وهذا هو الذى جعل الجماهير ترفع صورة «عبد الناصر» مع صورة «السيسي» أملاً فى أن يحقق أحد أهم أهداف ثورة 25 يناير الأساسية. لقد ذكرنى الدكتور «فرج» فى حديثه عن «كراهية جماعة الإخوان المسلمين بالسؤال الساذج حقاً الذى رفعه الأمريكان بعد الهجوم الإرهابى عليهم فى 11 سبتمبر حين تساءلوا لماذا يكرهوننا؟ متجاهلين فى ذلك الاعتداء المنهجى على حقوق الإنسان والهيمنة الاستعمارية الأمريكية. وأختم حديثى بأن «السيسي» ليس بينه وبين أحد من الشعب ثأر، وحتى جماهير الشعب المصرى التى خرجت لإسقاط حكم جماعة الإخوان المسلمين ليس معها ومعهم ثأر، ولكن يبقى لنا أمل فى ألا تسلك الجماعة طريق العنف والإرهاب. نقلا عن صحيفة " الاهرام" المصرية