وزير الأوقاف يستقبل شيخ الطريقة الرضوانية بحضور مصطفى بكري (تفاصيل)    مسؤول بمجلس الاحتياط الأمريكي يتوقع تخفيض الفائدة الأمريكية عدة مرات في العام المقبل    مصر للطيران تعلن تعليق رحلاتها إلى لبنان    هبوط تجاوز ال700 جنيه.. سعر الحديد والأسمنت اليوم الثلاثاء 24 سبتمبر 2024    بعد الزيادة الأخيرة.. تحذير عاجل من «الكهرباء» بشأن فواتير العدادات مسبقة الدفع (تفاصيل)    جماعة الحوثي في اليمن تتعهد بدعم حزب الله اللبناني ضد إسرائيل    وزير الخارجية: نتطلع لتعزيز التعاون الثنائى مع السلفادور وتوسيع نطاقه    فرنسا تدعو لاجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي حول لبنان    حماس تعلن استشهاد أحد قادتها الميدانيين خلال غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    العراق يعلن عن جسر جوى وبرى لنقل المساعدات إلى لبنان    المستشار القانوني للجنة الأولمبية: الزمالك أرسل اسم فتوح للسفر للسعودية وطلبنا إقرارًا قانونيًا لاعتماده    وكيل عبد الرحمن مجدي يكشف كواليس تفضيله الانتقال لبيراميدز بدلًا من الأهلي    وكيل ميكالي: الأرقام المنتشرة عن رواتب جهاز ميكالي غير صحيحة وجنونية    أسامة عرابي: نسبة فوز الأهلي بالسوبر الإفريقي 70%    بلاغ جديد ضد التيك توكر كروان مشاكل بتهمة بث الذعر بين المواطنين    ماس كهربائي وراء حريق شقة سكنية ووفاة شخص بالموسكي    أول تعليق من هند صبري بشأن الجزء الثاني ل«أحلى الأوقات»    تأثير القراءة على تنمية الفرد والمجتمع    الفوائد الصحية لممارسة الرياضة بانتظام    أهمية الغذاء الصحي في حياة الإنسان    وزير البترول يؤكد استدامة الاستقرار الذى تحقق في توفير إمدادات البوتاجاز للسوق المحلي    شيكابالا لجماهير الزمالك: سنحتفل معا بلقب السوبر الإفريقي    حتحوت يكشف رسائل محمود الخطيب للاعبي الأهلي قبل السوبر الإفريقي    أشرف نصار: لدي تحفظ على نظام الدوري الجديد لهذا السبب    مايوركا يصعق ريال بيتيس في الليجا    تي موبايل-أمريكا تعتزم طرح سندات للاكتتاب العام    وزير الخارجية يؤكد على أهمية توظيف المحافل الدولية لحشد الدعم للقضية الفلسطينية    ارتفاع حصيلة مصابي حادث أسانسير فيصل ل5 سودانيين    اخماد حريق نشب بمخلفات في العمرانية الشرقية| صور    إبراهيم عيسى: تهويل الحالات المرضية بأسوان "نفخ إخواني"    بالأسماء، إصابة 4 أشخاص من أسرة واحدة في تصادم سيارتين بالدقهلية    مدير الجودة بشركة مياه الشرب: أقسم بالله أنا وأسرتي بنشرب من الحنفية ومركبتش فلتر    الأمين العام للأمم المتحدة يعرب عن قلقه العميق إزاء القصف الإسرائيلي لجنوب لبنان    محارب الصهاينة والإنجليز .. شيخ المجاهدين محمد مهدي عاكف في ذكرى رحيله    تعرف على جوائز مسابقة الفيلم القصير بالدورة الثانية لمهرجان الغردقة لسينما الشباب    وفاة النحات سمير شوشان عن عمر ناهز 71 عاما    هيفاء وهبي جريئة وهدى الإتربي تخطف الأنظار.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    مجمع الفنون والثقافة يشهد حفل تخرج طلاب كلية الفنون الجميلة -(صور)    حدث بالفن| وفاة فنان سوري وحريق يلتهم ديكور فيلم إلهام شاهين وأزمة سامو زين الصحية    تعرف على موعد ومكان عزاء رئيس حزب الحركة الوطنية    الآن رابط نتيجة تقليل الاغتراب 2024 لطلاب المرحلة الثالثة والشهادات الفنية (استعلم مجانا)    أحمد موسى يناشد النائب العام بالتحقيق مع مروجي شائعات مياه أسوان    طريقة عمل الأرز باللبن، لتحلية مسائية غير مكلفة    صحة الإسكندرية: تقديم 2 مليون خدمة صحية للمواطنين ضمن «100 يوم صحة»    عمرو أديب عن خطوبة أحمد سعد على طليقته: «هذا ما لم نسمع به من قبل» (فيديو)    عيار 21 يسجل رقمًا تاريخيًا.. مفاجآت في أسعار الذهب اليوم الثلاثاء «بيع وشراء» في مصر    جامعة عين شمس تستهل العام الدراسي الجديد بمهرجان لاستقبال الطلاب الجدد والقدامى    عمرو أديب: حتى وقت قريب لم يكن هناك صرف صحي في القرى المصرية    عاجل - البيت الأبيض: بايدن وبن زايد يشددان على ضرورة التزام أطراف الصراع في غزة بالقانون الإنساني الدولي    الاقتصاد ينتصر| تركيا تتودد لأفريقيا عبر مصر.. والاستثمار والتجارة كلمة السر    في إطار مبادرة (خُلُقٌ عَظِيمٌ).. إقبال كثيف على واعظات الأوقاف بمسجد السيدة زينب (رضي الله عنها) بالقاهرة    «التنسيقية» تنظم صالونًا نقاشيًا عن قانون الإجراءات الجنائية والحبس الاحتياطي    خالد الجندي: بعض الناس يحاولون التقرب إلى الله بالتقليل من مقام النبى    مصروفات كليات جامعة الأزهر 2024/2025.. للطلاب الوافدين    "المصريين": مشاركة منتدى شباب العالم في قمة المستقبل تتويج لجهود الدولة    أستاذ فقه يوضح الحكم الشرعي لقراءة القرآن على أنغام الموسيقى    "أزهر مطروح" يطلق "فاتحة الهداية" بالمعاهد التعليمية ضمن مبادرة بداية    وكيل الأوقاف بالإسكندرية يشارك في ندوة علمية بمناسبة المولد النبوي الشريف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إيقاع المكان في بيت الماء
نشر في محيط يوم 15 - 06 - 2009

في فقرة من أشدِّ الفقرات قوَّة، يصف الراحل الكبير إدوارد سعيد في كتابه "خارج المكان" شدّة، التأثُّر الذي تملَّكه وهو يقف على عتبات مدرسة الطفولة؛ هي لقطة وإن أوحت في ظاهرها مفارقة مع العنوان، إنما تؤكد العلاقة الحميمية التي تربط الفرد بالمكان؛ علاقة ذات صلة بجوهر الكينونة؛ المكان بوصفه جزء من الهوية؛ ولئن عالج صاحب الإستشراق علاقته من الخارج بالمكان بلغة نثرية لم تخل من جمالية شعرية، فإن منذر العيني يستقصي أثر المكان وروحه في ذاته من الداخل عبر مقاربة شعرية بالأساس، وإن تعددت أسماء المكان في "بيت الماء" فهي في الآخر مسمّى لاسم واحد هو رؤيا الشاعر التي، وإن نهضت على ترسيخ الفكرة المتداولة لأهمية المكان في تشكيل ذات الفرد، فإنها تسلّط الضوء بالأساس على ذلك المكان المهجور، المنبوذ، المتروك في الخلف وهي في الآخر تنهض على الاحتفال بجمالية المقصي المهمَّش من الأمكنة وعناصرها.
يطيل الشاعر الوقوف عند الأمكنة الرابضة بعيدا عن الأضواء؛ عند أطراف المدينة؛ في الأحراش؛ في القرى المهملة؛ أو تلك البقاع في الأرياف النائية "سباخ سيدي الهاني" "فلوات لمطة" "جبل زغوان" "وادي بوبازين" "جردة سوسة" "سوسة القابدجي" "باب أرناز" "نهج تريبونال" "الحفصية" "القصيبة" "حانة الفينيقي الصغير" "أسباط سوسة..". الخ. يجوس الشاعر خلال هذه الأماكن، يطوف بأركانها يتملَّى تفاصيلها ينفض عنها غبار السنين بما يتهجاه بين زواياها، وإذا بها تهتف بهيجة مأهولة حافلة بالدَّهشة؛ تنبض بالحياة السخية، بل لعلها مصدر الحياة الحقيقية منبع الدفق المتنامي للكينونة:
" أسألوا وادي بوبازين؛ الفينيقيون القدامى غسلوا الصوف تركوا رغوة الحكايات" ص155
" نهج التريبونال يشبك خطواتنا نتقاسم معه ضائقة البوصلة" " أمام ندى دهشتي من بيوت اليمام بجردة سوسة إذ تتلوى على نغمة الموج، استل منها معاجم بادت وأنثرها للرياح" ص14
"تغمس حرباءها كي تشق بها الملح تلعقه من سباخ سيدي الهاني" ص130
"كهمهمتي تقبل الريح من فلوات لمطة" لمتيس "تؤازرني نحو جبانة الغرباء" ص144
ثمَّة هنا هوس وجداني بالمكان، والأكيد انه نتاج قراءة متأنية مثقفة متأثرة خاشعة؛ هوس يجد مسوغاته في ما تتوهج به هذه البقاع من جمال خفي؛ جمال لن يجيد الإفصاح عنه غير الشاعر الذي لا يتعامل معه من الخارج ويصوره بكاميرا السائح أو بعين العابر، بل ينقله وفق ما يفعله في داخله ويرسمه حسب ما ينفعل به وجدانه؛ هو يرسمه فعلا، يرسمه بغير أدوات رسم قيس الأراضي وبغير فرشاة الرسام الانطباعي؛ هكذا هو هذا النص يندفع في اتجاه غير محسوب من قبل "القفز في المجهول"، إنه على الحافة بين الشعر والرسم يستنفر جميع الحواس لتتقاطع عنده الصورة الشعرية مع اللقطة التشكيلية وهو ما سيؤدي إلى نسف المرجعية الثقافية الجغرافية المعهودة للمكان، وسيبدو كما لو أنه على غير صلة بالمرجعية التوبوغرافية التي ينتمي إليها.
يفقد المكان هنا إحداثياته المعهودة ليتحول أسطورة، وهو كذلك طالما أن الشاعر يرصد اللحظة المكانية من زاوية مختلفة تماما من جهة ما تفعله في الذات؛ مازجا الحاضر بالماضي بالآتي، وهو ما جعل نص العيني على الحافة نصا يكاد ينفلت عن التصنيف ولكنه في الآخر شعر؛ شعر يعتمد الوثيقة التاريخية ويتوسل الأسطورة وهو يراهن على السرد كعنصر من عناصر الإرواء الشعري في ما يتوفر عليه من إمكانات لتشكيل الصورة بتقنية مختلفة، وما يتوفر عليه من موتيفات لتحقيق وحدات إيقاعية لئن بدت مرتكزة على التفعيلة أحيانا فهي في مواضع أخرى تتحقق من خلال تنامي الصورة وتموقع المفردة ضمن السياق الواردة فيه؛ ولعل البورتريهات التي اشتغل عليها الشاعر والتي وإن جاءت لترفد قيمة المكان بما أنها عنصر حيوي وغريزي فيه، فهي تعزز الرؤيا التي تمجد المهمش وتعلي قيمته؛ هذه الشخصيات المقدودة عجينا من الغبار والعرق اليومي يرسمها الشاعر بعين شغوف ترصد أدق التفاصيل فيستجلي خفاياها محدقا في باطنها بما هو وقود لحركة الظاهر.
بائع القهوة:
"تبدأ ناعورة الرجل الحامل القهوة العربية المشتهاة أناولها بائع الطفل.. أناولها لجنية الصوت تلغو فتات البياض فتاتي" ص125
الإسكافي:
"نافذتي مثل إشارات إلهية، قبتها دارة إسكافي، باب البحر لا يعنيه غير الرتق في صمت الكلمات" ص146
المسافر:
"الدغل أشجار من ألوان الخاطرة والباهت الأهبل لون أزرق يصمغ بحة المسافر" ص77
القطط:
"قطط كعرائس شمس اوسو يجمعن أخيلة البحر من رجل خاسر" ص80
هذه البرورتريهات ليست أطيافا وليست أخيلة وليست شخصيات من صنع خيال الشاعر، إنها كائنات حقيقية تمارس عيشها اليومي لم يعمد الشاعر الى التقاطها بآلة التصوير الفوتوغرافي فهو غير معني بالصفات الخِلقية والخُلقي، إنما عمل على استقصاء تأثيرها في تشكيل المكان من خلال حضورها الحيوي البارز ضمن أوركسترا سمفونية المكان، ورغم ما قد توحي به هذه الشخصيات من دونية بحكم موقعها في سلم التراتب الاجتماعي، لكنها في حقيقتها هي جوهر حركة المكان ونضارته وتدفقه، بل ان الشاعر وهو يتأملها ويرسمها بهوسه الوجداني سيرى انها صدى لحركة التأريخ وانها خلاصة مجده أيضا فهي تحمل في دواخلها تركة أولئك الذين مروا "هسّة سركون بولص" "ريقي بوب مارلي" "اسطرلاب بشار" "هيأة طاغور" "شحاذ محفوظ"... الخ.
غير أن المزيّة الأهم للمكان كما يراها منذر العيني وهي أيضا حقيقة لن يجادله فيها الكثيرون، إن المكان لا يموت يلوذ صاحب "ظلال المسافة" بالمكان هربا من الموت. ولئن لا تكاد قصيدة تخلو من الموت في "بيت الماء" فإنَّ حضور المكان يطغى عليه كما لو أنه يهزمه.
"الجهات الأربع التحام الحب بالوداع المرّ أبدية لا تتسمّى، فابق حيث شاء الزعتر البري وجاءتك نحلاتك الخضراء كتابة الحضور على جبين النسيان" ص40
"أرواح الوديان لا تموت" ص55
"الموت مأهول بالصدفة" المسافرة في ثنايا العشق" ص56
تدشن ثنائية الموت / المكان، لحظة الخروج من أزمة القدر الذي لابد منه، قدر الموت الذي لابد منه، موت لا فرار منه، موت متربص ولكنه مهزوم بحكم سلطة المكان، هذا المكان يجوس منذر العيني أركانه وزواياه الخبيئة بعكازته التى ليس له فيها مآرب أخرى غير البقاء وغير حب الحياة؛ هي لحظة صراع لا يكاد ينتهي حتى يبدأ من جديد، ولكنه يبدأ هذه المرة شعريا وإن كان أوليس قد طوَّف العالم من أجل كسر شوكة الموت، فابن حضرموت يطوف بالأنحاء المنسية بحثا عن زاوية يهزم فيها لذات هازم اللذات، وسيبدو هذا الصراع جليا من خلال ما حاول الشاعر أن يرسيه من بؤر سردية ذات ذرى درامية سرعان ما ينسفها لصالح مقاربة مختلفة الاسلوب والنمط، وهو ما أدى إلى انبثاق خلايا إيقاعية مبثوثة بين مختلف القصائد لا تجهر بموسيقاها بقدر ما توحي بتناغمها، فتتحول إلى طاقة داخلية تدفع النص إلى التقدم، وقد شغلت الشاعر اللغة المستلة من البلاغة القديمة فارتأى أن يتعمد أحيانا مفردات البلاغة الفخمة، وهو، وإن أكد صلة الشاعر بالموروث اللغوي في متنوعاته ومشتقاته، غير أنها أضرت بالمناخ العام للنص وهو ما لن يقلل من أهمية هذا الإصدار الشعري، خاصة وانه تضمن لقطات متفردة في روحها وإيقاعها من مثل:
"ماتت أمي على عشبة زيتونة مهملة / فوضعت على كفها زهرة/ لكن النسر خطفها وأمي تحركت/ فرحت بها لأنها تحركت / لكن النسر رجع بتلك الزهرة / وأمي رجعت لا تتحرك /
لعل هذه القصيدة من أقوى ما في هذه المجموعة لما فيها من انسيابية ومن صراع بين المكان والموت وبينهما الشاعر بعكازته التي إنما هي في الآخر الشعر... المجموعة الشعرية "بيت الماء" منذر العيني. دار النهضة بيروت. لبنان 2009.
** منشور بصحيفة "المستقبل" اللبنانية 15 يونيه 2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.