كيسنجر وإيران والسياسة الأمريكية طاهر حمدي كنعان لا يملك المرء سوى مشاعر الملل والضجر يبذلها تجاه الحكمة الجديدة التي تروّج لها وسائط إعلام مقروء ومشاهد، ترهب الناس من خطر المطامع الإيرانية على الدول الخليجية والعربية الأخرى، و تحذر الناس من دهياء مظلمة إذا طوّرت إيران قدرات نووية، مبررة التحالف مع أمريكا (وإسرائيل؟) في حربهما ضد إيران بزعم أن الخطر الإيراني هو بمرتبة الخطر الإسرائيلي إن لم يتفوق عليه! لم تحتج إسرائيل إلى قدرة نووية لاجتياح أراضي أربع دول أعضاء في الجامعة العربية وجعل سائر الأعضاء شركاء في الهزيمة، بل فعلت ذلك بالأسلحة التقليدية. وليس حرصها بعد ذلك على امتلاك السلاح النووي إلا لردع العرب عن استعمال تفوقهم العددي والجغرافي عن القيام بأي محاولة لتحرير الأرض واستعادة الحقوق. فالسلاح النووي بطبيعته لا يصلح إلا للردع وليس للقيام بالاعتداء والاحتلال حيث الأسلحة التقليدية هي الفعالة والأكثر مرونة. وعلى افتراض أن في نية إيران السيطرة على الدول العربية لا سيما المجاورة لها فهي لا تحتاج حتى إلى السلاح التقليدي، بل إلى نفوذها البشري والمالي فضلاً عن جاذبيتها كقدوة عقائدية مقاومة للعدوانية الإسرائياية والاستكبار الأمريكي. أما امتلاكها القدرة النووية فلا يمكن أن يعني لها شيئاً سوى موازنة الرعب مع ثلاث دول قوية في جوارها تمتلك تلك القدرة، وهي الهند وباكستان وإسرائيل. وإذا كان ثمة خطر حقيقي على دول الخليج من دولة نووية بخلاف إسرائيل فلماذا لا يتجه الخوف إلى الهند التي يفوق نفوذها الجيوسياسي في حوض الخليج، بحكم امتدادها الجغرافي والبشري فيه، أي نفوذ آخر! خطرت لي هذه الخواطر حين قرأت مؤخراً حديثاً على لسان هنري كيسنجر أحد أهم صانعي السياسة الأمريكية المعاصرة التي كانت ولم تنفك تحدث تأثيرها الهدّام على مقدرات وطننا العربي ابتداء من دوره خلال ظروف حرب 1973. الحديث كان خلال مقابلة على طاولة غداء في أحد مطاعم نيويورك، أجراه معه الكاتب الأمريكي ستيفن جراوبارد Stephen Graubard، ونشرته الفايننشال تايمز في 24 أيار الماضي على صفحة كاملة، فغطى مواضيع عديدة، ولفتت نظري منه بعض الفقرات اللافتة التي قدرت أنها تهم القارئ العربي. أهم فقرات هذا الحديث هي تلك التي تلقي الضوء الكشاف على نظرة كيسنجر كأحد مهندسي التقارب بل التماهي بين المصلحتين الصهيونية والأمريكية هي الرد الحازم لكسنجر على استفهام جراوبارد عن رأي كيسنجر في سياسة أمريكا الحالية ضد إيران حيث قال: ما برحت أدعو إلى إجراء مفاوضات شاملة مع إيران نناقش فيها جميع نقاط الاختلاف بيننا.. بهدف إقناع إيران لكي تقرر: هل هي أمة أم قضية ؟ فإذا بدأت إيران ترى نفسها أمة فإنها عندئذ ستحظى بالمكانة المحترمة في النظام الدولي. ويضيف كيسنجر أن علاقته بشاه إيران السابق لم تكن علاقة صداقة فحسب بل كانت متجذرة في إدراك كيسنجر للأهمية الاستراتيجية لإيران والتي ما زالت قائمة حتى الآن. يقول كيسنجر: إن الجهد الجدي في التفاوض مع إيران يجب أن يبدأ ثنائياً بين أمريكا وإسرائيل لكي يدرك كل منهما وجهة نظر الآخر وصولاً بعد ذلك إلى تفاهم متعدد الأطراف يضم جميع جيران إيران. اللافت أنه لم يرد في الحديث أهمية ما يوليها كيسنجر لخطر إيران على جيرانها أو على الأمن الدولي، بل هو يعتقد بإمكان إقناع إيران بأن بإمكانها أن تحقق مصالحها بمجرد التفكير بذاتها كأمة، لا كقضية، وبذلك تصبح في حالة قابلة لأن تضم في مظلة مصالحها الوطنية جميع جيرانها، كما كان الأمر زمن الشاه السابق! بعبارة أخرى إن ما يقلق كيسنجر هو قضية إيران وليس أطماعها للنفوذ والسيطرة على جيرانها. إذاً فلتسع أمريكا إلى طمأنة إيران لهذه الناحية، ولتحتل مع كل الاحترام مكانتها المتلائمة مع أهميتها الاستراتيجية في المنطقة، شريطة أن تتخلى عن قضيتها. ولكن ما عساها أن تكون هذه القضية ؟ هل ثمة شك في أنها لا تعدو مناصبتها العداء لإسرائيل؟ منهج كيسنجر ونصيحته لصانع السياسة الأمريكية فيما يتعلق بإيران هي المفاوضة والتفاهم معها بما يسمح لها باحتلال المكانة اللائقة بها في المنطقة شريطة عدم الإضرار بمصالح إسرائيل وأمريكا. فما الذي يمنع صانعي السياسة في الدول العربية من الاستفادة من منهج كيسنجر ونصيحته، فيجرون التفاوض معها على ما يحقق مصالحها الوطنية في المنطقة، دون الإضرار بمصالح الدول العربية فيها؟ الحق أنه لايوجد ما يمنع ذلك، بل يوجد الكثير من الأسباب التي تزكيه وتعززه وتجعل الوصول به إلى الغاية المرجوة أسهل بكثير مما يأمله المفاوض الأمريكي، وعلى رأس هذه الأسباب أنه ليس ثمة شرط عربي لتنازل إيران عن قضيتها في معاداة إسرائيل كما هي الحالة الأمريكية. جانب آخر لافت من هذا الحديث هو أنه يشي بصورة واضحة النظرة والمشاعر العنصرية واللاإنسانية التي يحملها كيسنجر للشعوب المناضلة من أجل حريتها، إلى حد أنه، وهو أستاذ للتاريخ، يتكلم بإدانة وازدراء عن التحرك الشعبي الذي شهدته أمريكا وأدى إلى انسحاب أمريكا من حرب فيتنام. يقول جراوبارد أن كيسنجر، بعد كل هذه السنين، ليس مستاء من قرار جونسون توسيع الحرب الاستعمارية على الشعب الفيتنامي ، كما هو حال الكثيرين من الساسة الأمريكان حتى من كان لهم الدور الأساسي في تلك الحرب مثل ماكنمارا الذي كان المدير الأعلى لتلك الحرب والذي بلغ من ندمه على ما جرته الحرب على ألوف الشباب الأمريكان الذين هلكوا في أوارها وعلى الدمار الهائل الذي ألحقته بفيتنام، أن سعى إلى رئاسة البنك الدولي لكي يكفر عن خطيئته بحق فيتنام بخدمة مجموعة البلدان النامية التي انتمى إليها ذلك البلد الفقير. على النقيض من ذلك تماماً، يتبين أن كيسينجر مازال حتى الآن محتفظاً بحقد غاضب أو غضب حاقد على التحرك الشعبي الأمريكي الذي انتفض آنذاك ضد حرب فيتنام وفرض الانسحاب منها وحقن دماء الأمريكان والفيتناميين على السواء. فبعد كل هذه السنين، يقول جراوبارد، إن غضب كيسنجر بل ازدراءه، لم يكن موجهاً إلى جونسون (الرئيس الأمريكي الذي أجج تلك الحرب) بل إلى الأمريكان الذين عارضوا الحرب، لأنهم (كذا حرفياً) كانت رغبتهم أن يروا وطنهم مهزوماً !! عن صحيفة الرأي الاردنية 24/6/2008