اتحاد من أجل المتوسط أم من أجل فرنسا؟! د. سعيد اللاوندي الرئيس الفرنسي ساركوزي متهم بأنه ممتلئ بالحنين( نوستالجي) إلي المرحلة الاستعمارية لبلاده, وراغب إلي حد الجنون في أن تلعب فرنسا دورا( قياديا) علي الساحة الدولية, لذلك فإن أفكاره( جميعا) تدور حول هاتين الرغبتين. وللإنصاف فإن ساركوزي قد تحدث في برنامجه الانتخابي( قبل أن يصل إلي مقعد قصر الإليزيه) عن خطته التي داهم بها الجميع. فمثلا فكرته عن إقامة ما سماه الاتحاد من أجل المتوسط لم يستوعبها الكثيرون, ربما حتي هذه اللحظة, لكنه مصر عليها, ولم يكف عن الحديث عنها في جولاته ولقاءاته, وعندما سئل عن تفاصيل هذا الاتحاد أجاب بأنه كلف مجموعة من الخبراء ورجال الاستراتيجيا داخل وحدة بحثية ملحقة بقصر الإليزيه لكي تبحث هذه الفكرة وتضع جميع التفاصيل لطرحها, بالكامل, في القمة التي حدد موعدها بنفسه في13 يوليو بباريس. وليس خافيا أن الرئيس ساركوزي يلعب أوراقه السياسية( علي المكشوف), وكان نجاحه في إقناعه بأوروبا( بتبسيط) اتفاقية ماستريخت المؤسسة للاتحاد الأوروبي هو الدينامو الذي حركه نحو مزيد من الأفكار التي يراها البعض, مثل ألمانيا, أفكارا لا تخدم سوي الطموح الفرنسي, لذلك كان طبيعيا أن تثير فكرة الاتحاد من أجل المتوسط أعصاب المستشارة الألمانية ميركل, التي اتهمت ساركوزي بأنه يريد تقسيم دول الاتحاد الأوروبي لحساب فرنسا, كما اعتبرته إسبانيا وإيطاليا( كارها) لوجودهما( الفاعل) في منطقة حوض البحر المتوسط. ولكي نفهم مدلولات هذا الصخب الأوروبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس, علينا أن نشير إلي محددات هذا المشروع من وجهة النظر الفرنسية, وهي كالتالي: أن يضم البلدان الواقعة علي حوض البحر المتوسط شمالا وجنوبا, وينفصل انفصالا تاما عن مسار عملية برشلونة, ويتأسس علي مشاريع إقليمية يشارك فيها القطاعان العام والخاص, وألا يكون نسخة مطابقة للاتحاد الأوروبي. وكان طبيعيا أن تفهم الدول الأوروبية الأخري أن هذا المشروع يكرس الحضور الفرنسي وحده بحيث تصبح باريس منافسا قويا لبروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي, سيما أن ساركوزي نفسه لم يخف أن اتحاده من أجل المتوسط يلغي تماما مسار برشلونة المتجمد عمليا, إلا قليلا, منذ انطلاقه في عام1995 وحتي اليوم, وعندما رفعت ألمانيا عقيرتها( اعتراضا) استقبلتها الدول الأوروبية بحفاوة بالغة, وفي اجتماع المجلس الأوروبي الذي انعقد في بروكسل في مارس الماضي تم إجهاض أفكار ساركوزي جميعا, إذ تم توسيع المشاركة في المشروع ليضم الدول ال27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي, وليس فقط الدول الأوروبية المشاطئة للبحر المتوسط شمالا, وضغط الأوروبيون لكي تشارك دول ليست مطلة علي البحر المتوسط. كما انصاع ساركوزي, لمطلب بروكسل بدمج مشروع الاتحاد من أجل المتوسط ضمن مسار برشلونة, بحيث يمكن اعتباره امتدادا له, أو علي أقل تقدير, كما قال برنار كوشنير وزير خارجية فرنسا, مرغما ومجملا في آن واحد, تجديدا لشباب مسار برشلونة الذي أصابه تصلب في الشرايين بسبب التعنت الإسرائيلي, وتجمد عملية السلام مع الفلسطينيين. الثابت أن مشروع الاتحاد من أجل المتوسط الذي يسيل حوله مداد كثير في هذه الأيام, هو الصورة المعدلة بعد تدخل أوروبا, ولقد قبله ساركوزي علي مضض, لكن اقتناعه بجذور الفكرة لايزال يملأ رأسه, فالرجل يؤمن إيمانا راسخا بأهمية وحيوية منطقة حوض البحر المتوسط, ويري أن الحلم الأوروبي( الخاص بإقامة أوروبا العظمي) يحتاج إلي حلم متوسطي, وهو حلم حضارات وليس حلم غزوات, فزمن بونابرت ونابليون الثالث قد ولي وانتهي, ناهيك عن أن الاستراتيجيات القارية الواسعة( التي تعتبر عنوانا لعصرنا الراهن) تحرض علي وضع استراتيجية أوروبية إفريقية يكون المتوسط بمثابة القلب أو المركز لها. وفي طنجة بالمغرب أسهب ساركوزي في حديثه عن مشروع الاتحاد من أجل المتوسط, فذكر أن التاريخ يحدثنا عن أن قرارات الحرب والسلم والمواجهة بين الشمال والجنوب يتم اتخاذها في منطقة المتوسط, وهذا معناه, كما يقول, أننا في المتوسط: إما أن نفوز بكل شيء, أو نخسر كل شيء! والثابت للجميع أن ساركوزي لا يريد الخسارة, وإنما ينشد أكبر قدر من الربحية التي يراها سهلة عبر المشاركة بين ضفتي المتوسط. صحيح أنه حاول أن يهرب من حالة السكوتية التي يعيشها مسار برشلونة منذ ثلاثة عشر عاما, وصحيح أيضا أنه لا يريد أن يصطدم بإسرائيل أو تركيا, فبحث عن إطار جديد لا يعكر صفو الدولة العبرية, ويطرح بديلا لتركيا يعوضها عن انضمامها إلي الاتحاد الأوروبي, لأنها بحسب قوله, دولة أوروبية جغرافيا! لكن إحقاقا للحق لقد انطلق الرجل من الواقع الصعب الذي تعيشه دول حوض البحر المتوسط, خصوصا تلك المشاطئة للبحر جنوبا, فأشار في حسرة إلي واقع الاختلالات الديموجرافية والاقتصادية فيها. فذكر, في شيء من ضيق, أن ضفتي المتوسط برغم قربهما لبعضهما البعض فإنه يفصلهما أكبر فارق في الدخل في العالم فدخل الفرد في الجنوب لا يزيد علي ثلاثة آلاف دولار في العام, مقابل ثلاثين ألفا في أوروبا( والفارق هو من1 إلي10), بينما تمس البطالة نحو30% أو يزيد بين صفوف الشباب الجنوبيين. والسؤال الآن: ماذا عن الإرادة العربية باعتبار أن الدول العربية المتوسطية هي الطرف الثاني في معادلة الاتحاد من أجل المتوسط. هل أصبحت لدينا أجندة واحدة أم أن كل دولة ستحاول أن تكسب لنفسها استحقاقات دون أن تلزم نفسها بمواقف الدول العربية الأخري؟ إن أخشي ما أخشاه هو أن تطمئن كل دولة لما يمكن أن تنتزعه لنفسها, فمصر قد يطربها أن تنعقد لها الرئاسة المشتركة( لمدة عامين), والمغرب قد يسعدها أن يكون الأمين العام( الجنوبي) مغربيا, وتونس قد يرضيها أن تكون هي دولة المقر للاتحاد من أجل المتوسط, لو حدث ذلك لتفرقنا مجددا إلي شيع وأحزاب, وأتصور أن المرحلة الآنية لم تعد تحتمل مثل هذه المكتسبات الفردية الصغيرة. وظني أن مصر بوصفها, أساسا, منسق مسار برشلونة في جنوب المتوسط, ورئيسة مشتركة في مؤتمر13 يوليو, يمكن أن تصوغ أجندة عربية مشتركة تركز فيها علي المطالب العربية الأكثر إلحاحا, والداعمة لإقرار الأمن والسلام في المنطقة, وأن تفطن إلي السم الذي قد يكون مدسوسا في العسل. فإسرائيل كدولة من دول الجنوب, وعضو في مسار برشلونة, لا يمكن التطبيع معها مجانا, وإذا كان لابد أن تصعد يوما في الرئاسة المشتركة( والأمانة العامة للاتحاد), فهل تقبل الدول العربية أن تمثلها إسرائيل مجانا؟ إنه سؤال يجب أن يدق كالناقوس في نفوس الدول العربية المشاطئة للمتوسط جنوبا. عن صحيفة الاهرام المصرية 2/6/2008