هل مازال هناك من يصطاد في المياه العكرة ويشوه صفو حياتنا؟!! * امل مهدى لكل زمان رجاله الشرفاء والعظماء اللذين يسطرون بأيديهم تاريخ مجيد ويصنعون مصر جديدة تعبر عن أحلامهم وطموحاتهم في الحرية والديمقراطية والعيشة الهانئة بكرامة دون إهانة أو استهانة بمشاعر المصريين، فمازالت مصر تزخر برجال وشباب وبنات يعوا معنى التضحية في سبيل الخروج من عنق الزجاجة والوصول بمصرهم إلى مصاف الدول المتقدمة والحفاظ عليها من أي خطر داخلي كان أو خارجي، فلا ننسى أنا لكل مرحلة في تاريخ مصر كان هناك من يضحي بكل شيء في سبيل إعلاء الراية المصرية،
فمن منا لا يتذكر دماء الشهداء التي غطت أرض سيناء في حرب أكتوبر المجيدة في سبيل استعادة الأرض والحرية والقضاء على الأسطورة الإسرائيلية في تلك الحرب المجيدة، ولكن في ظل غمرة الانتصار والفخر التي تنتاب كل مصري بعد أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير نجد هناك من يعكر صفو المصريين ويؤرق الأسر المصرية الآمنة، ففي الوقت الذي يضحي الشباب بدمائهم تجد شرزمة من الأشرار والبلطجية وأرباب السجون التي كونت عصابات تغتصب من خلالها حقوق المواطنين وترهبهم وتسلبهم أموالهم من خلال السطو المسلح أو الاختطاف أو هتك العرض والابتزاز والاستغلال الأمر الذي يؤثر على أمن الأسر المصرية ويجعلها لا تشعر بالأمان وخاصة في ظل الحالة الأمنية المتردية بسبب حالة الضعف التي تعاني منها الشرطة وعدم رجوعها بقوتها الكاملة، مما أعطى تلك الحفنة من الأشرار الفرصة للاستمرار في جرائمهم،
فهل تستحق تلك الشرزمة أي تعاطف أو حتى تستحق الجنسية المصرية، فلا يعقل أن يكونوا مصريين فهم لا يستحقون إلا عقاب الله في المفسدين اللذين ينتهزون أي فرصة لإظهار فسادهم في الأرض والعيش على النهب والسرقة والاستغلال. وعلى الصعيد ذاته، تجد استغلال من نوع آخر ليس من البلطجية فحسب، ولكن من بعض التجار أيضا اللذين يستغلون الفرصة لرفع الأسعار في كل شيء وخاصة السلع الضرورية التي يحتاجها كل بيت مصري، مما يستبب في حدوث الأزمات والمشاكل الاجتماعية، وعلى سبيل المثال ارتفاع أسعار الخضر وأنابيب الغاز وغيرها. هذا بالإضافة إلى حالة التوحش الشعبي التي تظهر في صورة احتجاجات فئوية صاخبة ومتجاوزة للحدود أحيانا, أو في صورة قطع الطرق وتهديد الناس أو في صورة أعمال عنف وبلطجة أو في صورة اعتداء على مسئولين أو في أحداث شغب طائفية أو في استعراض القوة لبعض التيارات والفئات والأشخاص. وهذه الحالة من التوحش الشعبي يخشى في حالة استمرارها أن تؤدي إلى فوضى هائلة نتيجة سقوط كل معايير القانون والأدب والاحترام, وتحطيم كل الثوابت الاجتماعية بدعوى الثورة والتغيير. وقد يؤدي هذا إلى تنامي ظواهر الاختلاف في المجتمع الأوسع وداخل الأسرة, وهذه وإن كانت مسألة طبيعية في حياة البشر إلا أن سخونتها وارتفاع صوتها في المجتمع المصري بعد الثورة مع غياب آليات لتنظيم الاختلاف ربما تؤدي إلى حالة من التصارع الخطر لو لم يتم ترشيدها وتوجيهها الوجهة الصحيحة, فعلى الرغم من كون الاختلاف ظاهرة إيجابية حين يكون اختلاف تنوع إلا أنه يصبح ظاهرة سلبية حين يكون اختلاف تضاد وصراع. ولا ننسى حالة الشك والتخوين التي ظهرت للعيان بوضوح، ومن هنا فقد أصبح كل شخص معرضا للتشكيك في وطنيته وانتمائه, وقد أحدث هذا حالة من العداء المتبادل الذي يهدد استقرار المجتمع وأثر كثيرا على سير الحياة الطبيعية وجعل الكثيرين من رجال الأعمال ينكمشون ويخافون المساءلة بحق أو بغير حق, خاصة مع تلاحق البلاغات للنائب العام من كل حدب وصوب .
وانتشرت القوائم السوداء ضد كل من أدلى برأي أو بتصريح يظن أنه معاديا للثورة أو مناهضا لها, واختلط الأمر بين العداء الحقيقي للثورة والتآمر ضدها, وبين اختلاف الآراء حولها. وقد ساد شعور عام بأن الكثيرون فاسدون ومتآمرون ومناهضون, وهذا يزيد من حالة الشك والتوجس وانعدام الثقة وفقدان الأمان. فهل يعقل أن نعاني من تلك المشاكل في وقت تحتاج فيه مصر إلى كل أيد وكل جهد للقضاء على بؤر الفساد المادي والإداري والأخلاقي والقيمي. فقد تعود الناس لعقود طويلة أنهم مهمشون, وأن السياسة يختص بها قلة من الناس في قمة السلطة وعلى رؤوس الأحزاب, وأن السياسة هي نشاط نخبوي بالضرورة, وأن ممارستها دائما محفوفة بالمخاطر, وأن الانتخابات شكلية ويتم تزويرها, وأن إرادة الشعب لا وجود لها ولا تأثير.
لذلك حين تغيرت الأحوال ظهرت الضرورة للكثير من التربية السياسية التي تعلي من إرادة الشعب, وتجعل صندوق الانتخابات هو الوسيلة المقبولة للتغيير, وتجعل الناس يعرفون كيف يقولون نعم أو لا في الانتخابات والاستفتاءات المختلفة, وأن لا يقعوا تحت تأثير محاولات الاستهواء والاستلاب, وأن يتكون لديهم عقل نقدي يزن الأشخاص والبرامج الانتخابية, ويعرف معاني الحرية والعدل والمساواة والمواطنة والديمقراطية. ومن الواضح أن العلاقة بالسلطة بعد الثورة تشهد بعض التناقضات المنطقية والوجدانية , فالناس يشعرون بالامتنان الشديد للجيش الذي حمى ثورتهم وأمن وجودهم وحافظ على أرواحهم ودمائهم في وقت كانت تتهددهم مخاطر جمة خاصة وأن الشرطة أخذت موقفا معاديا أو متخاذلا وأحيانا متآمرا.
ومع هذا الشعور الرائع تجاه الجيش نجد بعض المشاعر الأخرى التي ربما تستعجل الخطوات, وتستعجل تحقيق الأهداف ومحاسبة المخطئين والفاسدين من أركان النظام السابق, والبعض الآخر يطالب بتسليم السلطة إلى هيئة مدنية لتجنب دخول الجيش في مجادلات وصراعات الحياة السياسية اليومية ولكي يبقى الجيش في منزلته الرفيعة درعا للوطن. وهذه التناقضات في العلاقة ظهرت بوضوح في الفترة الأخيرة, وأدت إلى ردود فعل متوترة أحيانا على الجانبين, خاصة فيم يتعلق بمسألة الدستور ومحاسبة مبارك وكبار مساعديه. ولقد تأثر الأطفال أيضاً بأحداث العنف والترهيب التي تعرضت لها بعض المدارس بعد الثورة بأشكال مختلفة, وعلى سبيل المثال قصة اختطاف ابنة رجل الأعمال عفت السادات وابتزازه لدفع فدية قدرها خمسة ملايين جنيه، فبعض الأطفال قد أصابهم الفزع من مشاهد العنف وأحاديث تهديد البلطجية التي أثارت الكثير من المخاوف, والبعض الآخر من الأطفال تضرر من إصرار الأسرة على متابعة القنوات الإخبارية طول الوقت مما حرم هؤلاء الأطفال من مشاهدة برامجهم المحببة إليهم. ويبدو أن أفكار الأطفال وسلوكياتهم تغيرت بعد الثورة حيث أصبحوا أكثر عنادا وعصيانا, وأكثر إصرارا على التعبير عن رأيهم.
وهناك حدث ذو دلالة في أحد المدارس الخاصة حين قام الكانتين برفع سعر بعض المأكولات والمشروبات التي يشتريها الأطفال وهنا تجمع الأطفال (سن الروضة والابتدائية) وقرروا مقاطعة الكانتين حتى يعيد الأسعار إلى مستواها السابق. هذا الحدث وغيره يشير إلى ضرورة أن يغير أولياء الأمور والمدرسين من نظرتهم إلى الأطفال ومن طرق تعاملهم معهم, وأن يتخلوا عن أساليب الترهيب, وأن لا يتوقعوا الطاعة المطلقة والانقياد لكل ما يطلبونه من الأطفال, وأن يتعلموا كيف يتحاورون معهم بشكل صحي. ومن هنا، فلابد من الاهتمام بتحقيق الأمن في الشارع المصري حيث يشكل الأمن أحد أهم الاحتياجات الإنسانية, لأن الإنسان لا يستطيع أن يعمل أو يبدع أو ينتج إلا إذا تحقق له الشعور بالأمن, وأن الصناعة والسياحة والزراعة وكل مناحي الحياة لا تزدهر إلا بتحقق الأمن. والعمل على تهيئة الظروف للتغيير المتدرج والعميق بشكل علمي صحيح, فالمجتمع المصري والعربي أيضاً في حالة سيولة وفوران, وفي حالة إعادة تشكل, ولذلك يجب أن نحترم هذه الموجة من الرغبة في التغيير, ونساعد لأن يكون تغييرا إيجابيا وعميقا وبناءا, وأن نعمل على دعم النمو النفسي والنضج النفسي والصلابة النفسية والمرونة النفسية, وأن نساعد على الخروج من حالة فقد السيطرة, وأن نهتم بتنمية مهارات إدارة الأزمات والخروج منها بشكل صحي. ويجب أن نحترم التغيرات الخارجية والسطحية التي حدثت ونعترف بأن أمامنا وقت طويل لكي تحدث تغييرات جوهرية في نفوس الناس, فالشعب المصري والعربي لن يتغير في يوم وليلة, وأن ما تراكم لديه من فساد وإفساد على مدى ستين عاما أو أكثر يحتاج لصبر وجهد حتى يتغير... المهم أن تكون لدينا النية ولدينا الإرادة ولدينا البرامج المؤدية لذلك. وفي النهاية، نؤكد على أنه من الضروري المحافظة على الروح الثورية وذلك يستدعي الإبقاء على المشاعر الثورية والدفع الثوري حتى يتم تحقيق الأهداف وأيضا لحماية الثورة في هذه المراحل الحرجة من محاولات الانقضاض أو الالتفاف. وهذا لا يعني استمرار وتصاعد التظاهرات والاحتجاجات طول الوقت, فقد تحتاج الثورة للاستقرار لتحقيق معدلات أعلى للتنمية, إذ أن نجاح الثورة لابد وأن يتكئ على اقتصاد قوي. والثورة تعني التغيير, وعلينا أن نشد أزر هذا التغيير ونرفع سقف التوقعات والطموحات وندفع الناس للمشاركة الإيجابية لتحسين أحوالهم وأحوال وطنهم، ولاستعادة التوازن والسلام الاجتماعي، فلا شك أن ثمة انشقاقات واهتزازات وتصدعات قد حدثت, ويحتاج الأمر إلى إعادة اللحمة الاجتماعية والسياسية واستعادة وحدة الوطن بمؤيديه ومعارضيه, فالجميع مصريون.