كانت لثورة 25 يناير آثار نفسية عظيمة علي معظم الشعب المصري وإن لم يكن علي الكل.. فالثورة فجرت لدي الناس مشاعر نفسية مختلطة ما بين إيجابية وسلبية.. مشاعر إيجابية تتمثل في الشعور بالنصر علي ديكتاتور كان جالسا علي العرش نحو 30 عاما، وكان ينوي توريث ابنه الحكم ليجثم بدوره علي نفوسنا 30 أو 40 سنة أخري قادمة.. شعور بالنصر يكشف كم الفساد الرهيب الذي كان يستشري في جسد الدولة والنصر لمحاكمة كل رؤوس الفساد ومحاولة لإعادة الأموال المنهوبة.. الشعور بالنصر لعودة العزة والكرامة للمواطن بعد أن كان يشعر بالذل والهوان وهناك الشعور بالأمل في بكره إللي حيقبي أحلي مع أملنا في إقامة دولة مدنية ديمقراطية وأمل في الإصلاح في الصحة.. والتعليم.. والاقتصاد والسياسة والأجور والمرتبات.. شعور بالأمل، لأن تصبح مصر دولة متقدمة من دول العالم الأول ونلغي من قاموسها (العالم الثالث). ولكن مع كل المشاعر الإيجابية الجميلة دي هناك أيضا بعض المشاعر السلبية لا يمكننا إغفالها وبعضها تسبب في (لخبطة نفسية) لدي الكثير من الناس.. وكان علي رأسها الخوف من بكره.. من إللي جاي وهو مجهول لدينا.. خاصة ما حدث وما يحدث الآن من استمرار الضعف الأمني.. وبعض الفوضي.. وظهور الفتنة الطائفية علي سطح الأحداث، فمصر الذي كان يحلم مواطنوها بأن تكون دولة مدنية ديمقراطية متقدمة أصبح يهددها شبح التيارات الإسلامية المتشددة وتصدرهم الساحة السياسية وإعلان بعضهم في ندواتهم عزمهم لإقامة خلافة إسلامية قادمة قادمة لا محالة ليعودوا بمصر لقرون طويلة مضت.. فوجئت في فترة ما بعد الثورة بالكثير من أصدقائي ومعارفي يعلنون شعورهم النفسي المتضارب ( المتلخبط) ما بين الإحباط والاكتئاب الكبير وبين الأمل في بكرة.. وأكدوا لي أنهم منذ اندلاع الثورة يعيشون علي المهدئات بصفة يومية ولا يستطيعون الاستغناء عنها ولا يوم.. فأعصابهم - علي حد قولهم - لم تعد تتحمل ما يحدث.. أكثر من واحدة أكدن لي أنهن لا يستطعن النوم ليلا منذ اندلاع الثورة فقد انتابهن الرعب منذ أيام الانفلات الأمني التام ولم يشفين من هذه المشاعر حتي اليوم، وهن لا ينامن إلا بالنهار لشعورهن بالأمان أكثر لاستيقاظ باقي الناس حولهم.. وهن يحمدن الله بأنهن ربات بيوت ولا يعملن !! واحدة أكدت لي أنها أصيبت بمرض الضغط من بعد الثورة رغم أنها كانت سليمة تماما وعمرها لا يتعدي الخامسة والثلاثين، ولكنها نظرا لمشاعر الخوف والقلق الدائم من بكرة أصبح ضغطها يرتفع بشكل مخيف من حين لآخر ونصحها الطبيب بتناول المهدئات أيضا بجانب أدوية الضغط.. فتاة عمرها 23 عاما تخرجت في الجامعة العام الماضي ولا تعمل أكدت لي أنها منذ 25 يناير يوم اندلاع الثورة وحتي يومنا هذا لم تخرج من منزلها سوي مرات تعد علي أصابع اليد الواحدة فهي علي حد قولها تشعر بالأمان أكثر في منزلها بينما هي تري أن الأمن والأمان غائبان في الشارع. نساء وفتيات كثيرات يؤكدن أن عاداتهن تغيرت من بعد الثورة فبعد أن كن يعدن إلي منازلهن بمفردهن الساعة 11 أو 12 مساء أصبحن يعدن علي الأكثر الساعة التاسعة مساء، وذلك لشعورهن أن الشارع مش أمان حتي الآن من وجهة نظرهن.. من أجل كل هؤلاء الذين يعانون من اضطرابات نفسية ومشاعر خوف وقلق من بعد الثورة اجتمع فريق من الأطباء النفسيين وعددهم 23 متخصصا في الطب النفسي وعلم النفس، وأقاموا ندوة للتحاور حول موضوع الحالة النفسية للمصريين بعد الثورة بنقابة الأطباء بالقاهرة. وكان علي رأسهم د . خليل فاضل، د. محمد المهد، د. وائل أبو هندي، د. أحمد شوقي العقباوي، د. ماجدة فهمي، د. أحمد عبد الله وغيرهم. وتناولت المناقشات محور الرصد النفسي : ومن خلاله نتبين الملامح الرئيسية للحالة النفسية لدي المصريين بعد الثورة : • الصدمة: وقد تأخذ المعني الإيجابي من حيث كونها حدثا مفاجئا لم يكن في توقعات أو الحسبان ممن أشعلوا شرارة الثورة إذ تطورت الأمور بسرعة وتجاوزت أحلام مفجريها، لذلك فهم لم يستوعبوا الحدث بكامل أبعاده.. إذ تجاوز الحدث أحلامهم وعلي الجانب الآخر قد تكون الصدمة حدثا سلبيا لأولئك الذين لا يرغبون في التغيير فهم في هذه الحالة في وضع جديد لا يتوافقون معه، إذن فنحن أمام صدمة نجاح لفريق من الشعب وصدمة فشل لفريق آخر، وبالتالي يتوقع الأطباء أن يمر الفريقان بحالة استثنائية من الاهتزاز النفسي وعدم القدرة علي الاستيعاب قد تستمر معهم بعض الوقت. • الخوف وممكن نقسمه إلي 3 شرائح مختلفة للشعب : أولا : المشاركون في الثورة وهؤلاء ينتابهم خوف علي مصير الثورة وعلي نجاحها ويتوجسون من محاولات إجهاضها أو الالتفاف عليها أو تفريغها من مضمونها. ثانيا: الصامتون، وهؤلاء المعنيون بلقمة العيش والشعور بالأمن، ولذلك هم يعيشون حالة خوف مما يحدث من تقلبات وتغيرات وتهديدات علي المستوي السياسي والأمني والاجتماعي وهم مرعوبون من غياب الأمن والأمان وتهديدات اللصوص والبلطجية ويخشون تهديد معيشتهم. ثالثا المناهضون : وهؤلاء لديهم مخاوف من نجاح الثورة وضياع مكاسبهم التي حصدوها مع النظام السابق، والأخطر أنهم يخشون الملاحقة القانونية والغضب الشعبي جراء ما ارتكبوه من جرائم ومخالفات في ظل النظام السابق، وهؤلاء المناهضون يعرفون أن لديهم تاريخا مسجلا بالصوت والصورة يمكن لأي شخص أن يشاهده علي الإنترنت وأن محاولات تغيير الأقنعة لديهم ستكون مفضوحة ومشينة، ولذلك فهم في وضع صعب للغاية. ويزيد من حالة الخوف التضخيم الإعلامي للأشباح والفزاعات كالسلفيين والإخوان وفلول الحزب الوطني والجهاديين العائدين من الخارج كل هذا يشكل هاجسا مؤرقا لكثير من الناس خاصة من يرفضون هذه الفئات ويخافون منها.. والخوف ليس بالضرورة أن يكون متعلقا بأسباب نوعية لدي الناس بعد الثورة، إذ إن التغيير نفسه في حد ذاته مصدر للخوف لدي البشر حتي لو كان التغيير إيجابيا، فالناس تعودت علي الطمأنينة ولم تتعود الخوف من المجهول كما يحدث الآن. وعلي الرغم من مشاعر الخوف السائدة إلا أنه من الناحية الأخري تم كسر حاجز الخوف واكتسب الناس جرأة غير معتادة تبدت في الكثير من الاحتجاجات والاعتصامات التي بدا فيها صوت الشعب عاليا وربما يكون صاخبا أكثر من اللازم! • الانتماء : شعر المصريين بالانتماء لوطنهم أكثر من ذي قبل والدليل ترديدهم شعار : ارفع راسك أنت مصري، واهتمام الشباب بتنظيف الشوارع وتجميلها وعاد للناس الشعور بأن الوطن وطنهم. • التوحش الشعبي : وهو يظهر كرد فعل للقمع الطويل السابق للثورة.. وللتوقعات العالية في مجالات كثيرة للإحباطات المتراكمة من قبل وبعد الثورة، وهذه الحالة من التوحش تظهر في صورة أعمال عنف وبلطجة وقطع طرق أو إحداث شغب طائفي في استعراض القوة لبعض التيارات، وهذه الحالة من التوحش الشعبي يخشي في حالة استمرارها أن تؤدي إلي فوضي هائلة نتيجة سقوط كل معايير القانون والاحترام بدعوي الثورة والتغيير. • الشك والتخوين : لقد أصبح كل شخص بعد الثورة مهددا بالطعن في نزاهته ووطنيته وتوجه إليه اتهامات أنه من فلول الحزب الوطني أو النظام السابق وقد أحدث ذلك حالة من العداء المتبادل الذي يهدد استقرار المجتمع وأثر علي سير الحياة الطبيعية، وجعل الكثيرين من رجال الأعمال ينكمشون ويخافون المساءلة بحق أو بدون حق.. وانتشرت القوائم السوداء ضد كل من أدلي حديثا أو تصريحا يظن أنه معادٍ للثورة أو مناهض لها واختلط الأمر بين العداء الحقيقي للثورة والتآمر ضدها وبين الاختلاف في الآراء وقد ساد الشعور أن كثيرين فاسدون ومتآمرون، وكل هذا يزيد لدي الناس مشاعر الشك والتوجس وانعدام الثقة وفقدان الأمان !! • الأطفال: لقد تأثر الأطفال أيضا بالثورة بأشكال مختلفة فبعضهم أصابه الفزع من مشاهد العنف في المظاهرات، خاصة في الأيام الأولي.. والبعض الآخر من الأطفال تضرر من إصرار أهاليهم من متابعة الأخبار في التليفزيون طول الوقت فحرموا من أفلامهم الكرتون المحببة لديهم. والجدير بالذكر أن كل ذلك أدي أننا رأينا تغييرا في نفسيات وطباع الأطفال الذين أصبحوا أكثر عنادا وعصيانا وأكثر إصرارا علي التعبير برأيهم وهناك ما حدث في بعض المدارس الخاصة، حيث قام الكانتين برفع أسعار السلع والمأكولات التي يشتريها الأطفال ..فتجمعوا وقرروا مقاطعة الكانتين حتي يعيد الأسعار إلي مستواها السابق.. هذا الحدث وغيره يشير إلي ضرورة أن يغير أولياء الأمور والمدرسون من نظرتهم إلي الأطفال ومن طرق تعاملهم معهم وأن يتخلوا عن أساليب الترهيب وألا يتوقعوا منهم الطاعة المطلقة.. وأن يتعلموا أن يتحاوروا معهم بشكل صحي.