تزايد عدد القتلى في صفوف قوات حلف الناتو في افغانستان بالمعدلات التي نراها حالياً يوحي بأن الأمور ليست على ما يرام بالنسبة الى القيادتين الامريكية والبريطانية اللتين تتحملان المسؤولية الأساسية في الاشراف على الحرب الدائرة هناك وادارتها.
فان يقتل ثمانية جنود بريطانيين في أقل من 24 ساعة اثناء مواجهات مع حركة طالبان، فهذا يعني احد أمرين، الأول ان معدات القوات البريطانية وقدراتها العسكرية ليست بالشكل المطلوب، والخبرة الكافية، والثاني ان قوات حركة طالبان في المقابل باتت أكثر شراسة وقدرة على التصدي لقوات حلف الناتو بطريقة تمكنها من إلحاق اكبر قدر ممكن من الخسائر البشرية في صفوفها لتوجيه ضربة معنوية لقيادتيها السياسية والعسكرية.
الأمر المؤكد ان هناك معارك عنيفة تدور حالياً في منطقة هلمند الجنوبية، المعقل الرئيسي لقوات طالبان، حيث تشن القوات الامريكية والبريطانية هجوماً ساحقاً تتطلع من ورائه الى انهاء سيطرة الحركة المتمردة على هذه المنطقة ذات الغالبية البشتونية. وهذا ما يفسر تزايد اعداد القتلى في الجانبين، والبريطاني على وجه الخصوص.
التكتيك العسكري الذي تستخدمه حركة طالبان في هذه المواجهات هو نفسه الذي اتبعته فصائل المجاهدين الأخرى اثناء الحرب ضد القوات السوفييتية، أي ترك هذه القوات تتقدم بسهولة ويسر في الأيام الأولى للهجوم ثم الانقضاض عليها بشكل مفاجئ وإلحاق اكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوفها في حرب استنزاف، تكون الغلبة فيها للقوات المدافعة على المدى الطويل.
نقطة ضعف القوات الامريكية والبريطانية في منطقة هلمند تتمثل في التفاف معظم اهل المنطقة حول المقاتلين الطالبان لأسباب قبلية وعرقية اولاً، ولتصاعد الكراهية في صفوف هذه القبائل تجاه القوات الغربيةالمحتلة من وجهة نظر هؤلاء. وما هو أهم صعوبة التفريق بين من هو جندي مقاتل في صفوف الطالبان، ومن هو من المدنيين العاديين، فالغالبية من اهل المنطقة مسلحون ومتشابهون في الزي والسلوك.
من الصعب علينا ان نتوقع انتصاراً سريعاً وحاسماً لقوات حلف الناتو في اقليم هلمند، ولا نبالغ اذا قلنا ان حركة طالبان ربما تكون الأكثر سعادة بالهجوم الحالي، لأنها نجحت في جر هذه القوات الى ملعبها، لتوقعها في مصيدة قد يكون من الصعب عليها الخروج منها. فاقليم هلمند مثل الرمال المتحركة، كلما توغلت فيها كلما ازدادت امكانيات التقدم او التراجع صعوبة.
الخيارات المتاحة امام غوردون براون رئيس الوزراء البريطاني وقادته العسكريين تبدو محدودة، علاوة على كونها في قمة الخطورة.
فالبقاء يعني المزيد من الخسائر البشرية، وزيادة عدد القوات تصب في النتيجة نفسها دون تحقيق النجاحات المأمولة، فكلما زاد عدد القوات زاد معدل الخسائر في صفوفها، وربما يفيد تذكير رئيس الوزراء البريطاني ومستشاريه ان اقليم هلمند يختلف كلياً عن اقليم البصرة العراقي، حيث حققت القوات البريطانية بعض النجاحات. فأهالي البصرة لم يكونوا اعداء للقوات البريطانية عندما وصلت الى المنطقة في الأيام الأولى للاحتلال.
بل ان قطاعات كبيرة من العراقيين استقبلت هذه القوات استقبال الفاتحين المحررين، أما بالنسبة الى اقليم هلمند فالصورة مختلفة كلياً، فالقبائل البشتونية تعتبر قوات الناتو قوات احتلال غازية، وترى مقاومتها واجباً دينياً ووطنياً.
ومن الممكن اضافة اعتبارات أخرى توضح الاختلاف الكبير بين الاقليمين أي البصرة وهلمند، فالأول سهل والثاني وعر في تضاريسه، وفوق كل هذا وذاك ان الصيف الحارق في المنطقة ليس في صالح القوات المهاجمة مطلقاً.
الخيار الثالث الذي لم يفكر فيه غوردون براون هو خيار الانسحاب من افغانستان كلياً، تماماً مثلما فعل في العراق، لأن البقاء مع زيادة عدد القوات هو بمثابة انتحار عسكري، علاوة على كونه انتحارا سياسيا.
ولذلك عليه ان يبدأ من الآن في التمهيد لهذا الخيار، والا فان افغانستان ستشكل الهزيمة الثالثة لبريطانيا في هذا البلد، مع الأخذ في الاعتبار ان الهزيمتين الأوليين وقعتا عندما كانت الامبراطورية البريطانية في ذروة قمتها ولا تغيب عنها الشمس.