بكل الاحترام والتقدير، بل والتبجيل، أتقدّم من مقامكم الرفيع راجياً تنازلكم الكريم وتقبّل رأيي المتواضع في ما عالنته في خطابكم الاخير.. رأي رجل قارب الثالثة والسبعين من عمره، كان خلالها مؤمناً بقضايا وطنه وأمته ومعاناة شعبه.. وبدأ نضاله الوطني في الخمسينيات من القرن الماضي ضمن الحركة الطالبية، فسجن وضرب وعذب في بيروت ودمشق.. وفي ثورة العام 1958 حمل السلاح وقاتل وشهد شهداء من رفاقه في معركة ضد قوات الرئيس كميل شمعون عند آخر خط ترام الحرج، وضد قوات الاسطول السادس الاميركي «المارينز» في حرج قصقص جنوببيروت.
وفي حرب تشرين الاول، رمضان 1973، شارك بوجوده كمراسل حربي، الاخطار التي واجهها جنود مصر البواسل وهم يدكون معاقل اسرائىل على خط بارليف.. وشعرت في حينه بفخر العربي بالانتصار لأول مرة في حياتي وظننتها لآخر مرة ما عدا ما شاهدته فعلاً وعشته عملياً من نضال وبطولة بيروت اثناء حصارها من قبل العدوان الاسرائيلي.. وأعترف لك اني عدت فأصبت باحباط شديد وصل الى حد الكفر بهذه الامة، الى ان كان حرب تموز 2006 وانتصاركم العظيم في مقاومة وصد جبروت العدو الاسرائيلي المتغطرس..
كنت في القاهرة اعمل مدير تحرير لاحدى المجلات المصرية وكاتباً في مجلة «الوطن العربي» اللبنانية وأعاني غربة دامت ثلاثين عاماً، مُنعت خلال خمسة عشر عاماً منها، من العودة الى وطني، لأني تجرّأت وانتقدت تجاوزات القوات السورية ومخابراتها ضد الشعبين اللبناني والفلسطيني. شاهدت بطولات المقاومة الاسلامية اللبنانية على شاشات التلفزيون وقرأت وسمعت اخبار صمودكم العظيم وقتالكم البطولي وشجاعة مقاتليكم، التي اعجبت العالم كله وفي طليعته الشعب المصري الذي عشت الى جانبه سنين طويلة خبرت خلالها طيبة «طينته» ونزلت الى الشارع أبحث عن جريدة تروي عطشي لمعرفة تفاصيل بطولاتهم، فوجدت باعة الصحف على نواصي شوارع القاهرة، يبيعون «بسرية» صورك الملوّنة الكبيرة وهم يفخرون بك.. واستغربت هذه السرعة غير المألوفة عند المصريين، في طباعة كميات كبيرة من صورك.. اشتريت واحدة منها وعلّقتها في صالون شقّتي في احد أحياء القاهرة.. واستمرّيت على حبّي وتقديري لك، على الرغم من كثير من مآخذ لنا، نحن شلّة من المناضلين المتقاعدين، على بعض نهجكم السياسي ونزق بعض اتباعكم وتجاوزاتهم.. الى ان كان السابع من ايار المشؤوم من العام الماضي.. والذي على الرغم من كل ما حاولتم لتبرير حدوثه، وإن كان بعضه حقاً ولكنه حق أريد به باطل على ما أعتقد، لم أستطع هضمه ولا فهمه..
فممارسته على الارض ووقائع اعتداءاته على مواطنين ابرياء مسالمين من اهلكم في بيروتالمدينة البطلة التي قاومت العدوان الاسرائيلي بشموخ واباء، لم تكن في سبيل مقاومة اسرائيل المشروعة.. بل ظهرت بوضوح انها محاولة فئة مسلمة من اللبنانيين تريد فرض ارادتها على فئة اخرى من المسلمين بالقوة.. وهذا امر مرفوض في عرفنا نحن مَن ناضل في سبيل الحرية والديموقراطية، حتى لو كنتم على حق.. ولم تكونوا..
من حينه لاحظت واترابي غروراً، والعياذ بالله، ينتاب جماعتكم ويتصرفون مع مَن يخالفهم الامر بفظاظة واستعلاء واستكبار، بينما انتم كنتم اول مَن حارب الاستكبار.. وقلنا، نحاول التبرير، ان كل هذه التجاوزات هي ولاّدية وصبيانية صادرة عن شبان مراهقين حملوا سلاحاً لا يقدرون شرفه وعظمة هدفه.. ولكن هذه الصورة بدأت تنهار لتحل مكانها صور بعض رموزكم وهم يخاطبون الناس برفع الاصابع مهددين وبلهجات قاسية ولغة ممجوجة لا تجوز ما بين ابناء الوطن الواحد، خصوصاً ما بين المؤمنين بدين واحد، مهما كانت الاعذار والاتهامات التي ثبت بطلانها.. ولسنا هنا في معرض شرح كل هذا، فأنتم يا سماحة السيد، ادرى الجميع بوطنية شركائك من الوطن والدين.
كنت دائماً اجلك عن هذه التصرفات الاستفزازية، وأجد لبعض ما كان يصدر عنك في خطبك من امثالها، عذراً وأصفه ب«زلّة لسان».
ولكن، اعذرني يا سيدي، إن تجرّأت وانتقدت خطابك الاخير، فلي في بعض ما بقي من تسامح في صدرك الرحب كثيراً من الامل، ومن دون الدخول بالتفاصيل، فالجميع سمع الخطاب واستوعبه.. وأنا شخصياً فهمت انه ليس موجهاً الى قسم من شعبك اللبناني مهدّداً متوعّداً، بل هو الى الضمير الاميركي الغائب، العائد الى المنطقة عبر الرئيس اوباما في الرابع من حزيران في زيارته المهمة الى القاهرة.. فهمت انها رسالة منك وممّن تمثل وما تحتل تهدد بالويل والثبور وعظائم الامور على الساحة اللبنانية، اذا لم تكن لطهران نصيب في مبادرة اوباما، في لعبة الاممالجديدة وكعكعة «المنطقة». وآمل ان يكون فهمي على حق، لأنك لن تترجم تهديدك ووعيدك في لبنان ولن تجرّه الى احداث ملتهبة غير محمودة العواقب.. وانما هما فقط من باب المناورة السياسية «المشروعة».
ومع كل هذا، فاعذرني يا صاحب السماحة، إن تجرّأت وأخذت عليك استكبارك، ليس علينا نحن الشعب المسكين، بل على وطنك لبنان نفسه، عندما قلت ان مَن انتصر على اقوى جيش في المنطقة يستطيع حكم لبنان ومَن هو اكبر من لبنان بمائة مرة.
يا سماحة السيد ختاماً، اسمح لي ان اقول لك انه ليس هناك لبناني او مؤسسة او حزب لبناني من اقوى من لبنان ولا الشعب اللبناني كله هو اكبر ولبنان يا سماحة السيد، ليس اسم بلد وحسب بل هو رمز دعاه بابا الفاتيكان ب«الرسالة».. رمز تعايش الثقافات والاديان.
رحم الله الشهيد رفيق الحريري الذي قال يوماً: ليس هناك احد اكبر من وطنه.. وليس هناك اكبر من لبنان مائة مرة.. او مرة واحدة!
وعفواً اذا ازعجتكم يا سماحة السيد بصراحتي، وذكّرتكم بأنكم لم تتذكّروا من شهر ايار غير السابع منه ونسيتم 15 أيار ذكرى النكبة وذكرى الجلاء الاسرائيلي عن لبنان والسادس عيد الشهداء. ونذكّركم ايضاً بوعدكم ان يكون خطابكم الموعود هذا عن مناورة اسرائىل العسكرية الكبرى على حدود لبنان. ** عن صحيفة الشرق اللبنانية 18 / 5 / 2009