ماذا نفعل مع باراك أوباما؟! د. عبد المنعم سعيد كان الوقت نهاية شهر مايو2007, وكان المكان هو المقر الصيفي للرئيس جوزيف بروز تيتو الزعيم اليوجوسلافي ورفيق الرئيس جمال عبد الناصر في حركة عدم الانحياز في قرية بليد الجميلة علي ضفاف بحيرة ساحرة باتت مع البلدة والقصر جزءا من دولة سلوفينيا التي خرجت من الاتحاد اليوجوسلافي الاشتراكي لكي تكون جزءا من الاتحاد الأوروبي الرأسمالي. وكانت المناسبة عقد منتجع لعشرين من أعضاء الكونجرس الأمريكي لمناقشة كل مايتعلق بالإسلام السياسي وقضايا الشرق الأوسط المتصلة به ينظمه معهد آسين الأمريكي الشهير الذي آل علي نفسه ألا يحكم أعضاء الهيئة التشريعية علي أمور لا يعرفون عنها شيئا, وكان من ضمن تقاليد المنتجع ان يجتمع كل خبير علي مائدة طعام غداء أو عشاء مع عضو مجلس الشيوخ أو النواب لكي يتاح للأخير أن يسأل ما عن له في جلسة غير مقيدة بأصول وقواعد الاجتماعات والمؤتمرات. في تلك الليلة, وعلي مقربة من الغرفة التي كان ينام فيها الزعيم الاشتراكي, كانت غرفة طعامه مع بقية القصرالذي كان يعيش فيه, قد صارت مكانا للزوار والسياح من أصحاب الحظوة والقدرة لكي يتمتعوا بالاشتراكية في أعلي مراحلها من حيث الرخاء الذي ليس مثله رخاء, والمذاق الذي ليس مثله مذاق, وهكذا كان العشاء حيث كان مع أحد أعضاء مجلس النواب من أصول إفريقية مع زوجتينا, ولاشيء آخر سوي انعكاس أضواء خافتة علي سطح البحيرة, وأنوار الشموع, ولوحات جميلة تقدس الانجازات المظفرة لثورة الطبقة العاملة, وسار الحديث كما هو معتاد حول المحاضرة التي ألقيتها, وتشعب الحديث من الإسلام السياسي ومشكلات الشرق الأوسط حتي وصلنا إلي الانتخابات الأمريكية التي كانت فصولها قد بدأت حيث انتقلت من دور المجيب إلي دور السائل وسألت صاحبنا عما إذا كان سيكون مؤيدا لذلك المرشح الجديد باراك أوباما, فجاءت الإجابة قاطعة بالنفي لأن أمريكا ليست جاهزة لرئيس من اصول إفريقية بعد, ولذلك فإنه سوف يلقي بثقله إلي جانب جون إدواردز الذي رشحه عضو مجلس الشيوخ جون كيري معه كنائب لرئيس الجمهورية في انتخابات عام2004, والذي كما قال رفيقنا علي العشاء ان لديه برنامجا اجتماعيا ناضجا يركزعلي العدالة الاجتماعية. وهكذا ظلت مسألة مدي نضوج أمريكا لتحمل رئيس من اصول إفريقية مطروحة بشدة طوال الحملة الانتخابية للرئاسة الأمريكية, ولكنني سرعان ماحزمت أمري علي أن تركة جورج بوش, وشخصية أوباما, والأزمة الاقتصادية, والنضج الأمريكي, وإدارة الحملة الانتخابية, كلها تكفي لكي يفوز باراك أوباما وهو ماكتبته في مقالات متعددة. وعندما صرح الأستاذ صلاح منتصر بالرهان الذي جري بينه وبين الدكتور زاهي حواس حول الفائز في الانتخابات الأمريكية كنت علي يقين أن الفوز والعشاء مقدر للأول, ولكن ذلك يفتح الباب للتساؤل فورا عن أسباب الإخفاق في التقديرات التي جرت حول النضج الأمريكي سواء من قبل عضو الكونجرس الأمريكي, والأثري المصري الشهير الذي عاش في الولاياتالمتحدة لفترات طويلة, وتكون الإجابة بأن أمريكا تغيرت كثيرا بأكثر من قدرة الأمريكي الإفريقي المخضرم والمصري الخبير أيضا علي تقديرها. هذا التغيير وحده يفتح الباب لإعادة تقويم السياسة المصرية تجاه الولاياتالمتحدة, وحتي دون انتخاب باراك أوباما فإن هذه السياسة, ومعها العلاقات المصرية الأمريكية كانت تحتاج إلي نظرة أخري, علي ضوء مااعتراها من خشونة وتوتر في أثناء إدارة جورج بوش, وربما لايكون المقام ملائما أو كافيا لسرد تشابكات هذه العلاقات التاريخية والتي جعلت هناك روابط خاصة بين القاهرةوواشنطن تدور حول عملية السلام في الشرق الأوسط, وأمن منطقة الخليج, واستقرار المنطقة ككل من توجيهات واتجاهات راديكالية وعنيفة. ولكن هذه الروابط سرعان ما اعتراها برود ونفور, لأن واشنطن باتت مهتمة بإسرائيل أكثر من اهتمامها بالسلام, وغزو العراق أكثر من اهتمامها برعاية المصالح الغربية والعربية في المنطقة, وبالتأكيد صارت واشنطن نفسها تشكل أكثر العناصر المسببة لعدم الاستقرار في منطقة فيها من العناصر المزعجة مايكفي وأكثر لعدم الاستقرار والفوضي. ولكن ومع كل ذلك فإن الولاياتالمتحدة كانت دائما من الأهمية والعالمية والقدرة بحيث يستحيل تجاهلها في القاهرة, وفي كل الأحوال فإن مصر لها من التأثير والمقدرة في الشرق الأوسط بحيث يصعب غض البصر عنها في واشنطن. ومع وجود إدارة أمريكية جديدة فإن صفحة وبداية جديدة تصبح مطلوبة ومرغوبة خاصة مع وجود كل الإشارات التي تقول إن أوباما سوف يكون مختلفا عن سابقه في عدد من الأمور: فهو ليس مقيدا بمجموعة المحافظين الجدد التي حملت مسئولية سوء التقديرات والقرارات الأمريكية, وعلي العكس فإنه يحيط نفسه بمجموعة من الليبراليين الذين عمل بعضهم في إدارة كلينتون وبعضهم الآخر جاء معه من الحملة الانتخابية التي تميزت بالإبداع والابتكار, وهو أكثر تواضعا علي عكس سابقه في النظر إلي دور الولاياتالمتحدة في العالم فهو يريدها قائدة بالنموذج بأكثر مما يريدها قائدة بالسلاح, وهو مع الإدارة المتعددة الأطراف للعلاقات والمشكلات الدولية, وليس مع ان تدير أمريكا العالم وتجري الدول الحليفة والصديقة وراءها بعد ذلك, وهو يري العالم من زاوية الاقتصاد والتنمية والتكنولوجيا والتعاون بين الدول وليس من زاوية الأمن والمنافسة والصراع بين الأمم. وبالتأكيد فإن هناك ماهو أكثر ويمكن حصره, ولكن أمامنا إدارة جديدة, تأتي بعد تجربة مريرة, ومن ثم فإنها أكثر استعدادا لأمرين: أن تستمع إلي الآخرين وما يقولون به خاصة من كانوا علي خبرة وبينة مما يقولون, وأن تستجيب لمبادرات وافعال يقوم بها الآخرون حتي قبل ان تتبلور المبادرات الخاصة بالإدارة الجديدة, وفي تاريخ الشرق الأوسط كتب النجاح دائما عندما تكون هناك مبادرات إقليمية حقيقية وجادة, وجاءت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية والانسحاب الإسرائيلي الكامل من سيناء بعد حرب أكتوبر من ناحية, وزيارة الرئيس السادات للقدس من ناحية أخري, وجاء مؤتمر مدريد بعد المشاركة العربية في حرب تحرير الكويت, أما اتفاق أوسلو الذي أوجد أول سلطة وطنية فلسطينية علي أرضها في التاريخ فقد جاء بعد المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية في أوسلو. والآن فإن أوباما يريد خروج الأمريكيين بسلام من العراق وخلال16 شهرا, كما يريد حل الصراع العربي الإسرائيلي, وسوف يكون هذا وذاك ممكنا من خلال مبادرات مصرية وعربية وإقليمية لاتعطي لأحد شيكات علي بياض, ولكنها في الوقت نفسه, لاتتخيل انه يمكن لإدارة أمريكية جديدة ان تقوم بتوصيل الحقوق المشروعة إلي المنازل! وفي وسط العلاقات الإقليمية المتشعبة التي تتقاطع فيها المصالح المصرية والأمريكية, فان العلاقات المصرية الأمريكية المباشرة ينبغي لها ان تأخذ مكانها الذي يليق بها. فالولاياتالمتحدة هي الشريك التجاري الأول لمصر بين دول العالم, ولو جعلنا الاتحاد الأوروبي طرفا واحدا لكانت الشريك الثاني, وهي الدولة الثانية في الاستثمارات الأجنبية, وهي الدولة القائدة في المرور من قناة السويس, وهي أكثر المانحين في التاريخ معونات إلي مصر, ومنها يأتي أعلي تحويلات للمصريين العاملين بالخارج وبفارق كبير عن التحويلات المقبلة من المملكة العربية السعودية, هذه العلاقات والمصالح المباشرة لاينبغي لها ان تغرق وسط مصالح وعلاقات أخري لاشك في أهميتها, ولكنها لاينبغي لها أن تلغي أو تحد أو تؤجل مايخص المصريين ومستوي معيشتهم وتنميتهم, وإذا كان الحزب الوطني الديمقراطي مؤمنا فعلا بدبلوماسية التنمية فإن تنمية العلاقات المصرية الأمريكية في مجالها وبعدها الاقتصادي عليه ان يكون له اولوية أولي, ويحصل علي جزء غير قليل من عمل الدبلوماسية والسياسة المصرية تجاه الولاياتالمتحدة, بل ومن وقت اللقاء الذي سوف يأتي عاجلا أو آجلا بين الرئيس مبارك والرئيس أوباما. بقي نوعان من القيم نحتاج إلي غرسهما في قلب العلاقات المصرية الأمريكية: أولهما: الشفافية في العلاقة بحيث يعرف الشعبان المصري والأمريكي كيف تتحقق مصالحهما بالعلاقة الممتازة بين الطرفين, وفي مصر فإن القليل المعروف حول حجم المعونات الأمريكية المقدمة إلي مصر ومدي ما أسهمت به حقا في التنمية والبنية الأساسية المصرية, وهناك القليل المعروف عن العلاقات الاقتصادية والتعليمية والعسكرية بين البلدين, وهناك ماهو أقل معرفة فيما يتعلق بتشابك العلاقات والمصالح بين الطرفين. وعلي الجانب الأمريكي فإن هناك القليل المعروف عن الدور المصري في الشرق الأوسط, وحجم ومدي التسهيلات التي قدمتها مصر للولايات المتحدة لتحقيق ليس مصالحها مصر وحدها وإنما مصالح الولاياتالمتحدة أيضا, وحجم العلاقات التجارية والاقتصادية بين الطرفين والتي يمكنها ان تنطلق إلي آفاق أوسع وأرحب في المستقبل. وثانيهما: الواقعية, فمصر ليست الولاياتالمتحدةالأمريكية, وكلتاهما تنتمي إلي عوالم وثقافات مختلفة, والاهم درجات مختلفة من التطور الصناعي والتقدم العلمي وتركيبة النظم السياسية, وهذا الخلاف لايعني الصراع بالضرورة, لأن المصالح غلابة بما يكفي, وإنما يفرض ضرورة الاحترام المتبادل لتجربة كل طرف التاريخية, والتي بالتأكيد فيها مايكفي للإعجاب والتقدير. هذه الواقعية ضرورية للغاية حتي نلم جراحا تكونت خلال السنوات الماضية, وآن لها الأوان ان تشفي, لأن العالم الجديد الذي جاء بأوباما إلي البيت الأبيض لايستطيع الاستغناء عن تعاون القاهرةوواشنطن. عن صحيفة الاهرام المصرية 10/11/2008